الاثنين، 15 مايو 2023

تفسير سورة الفاتحة للشعراوى

 

تفسير سورة الفاتحة للشعراوى

بسم الله الرحمن الرحيم

القرآن الكريم منذ اللحظة التى نزل فيها نزل مقرونا بسم الله سبحانه وتعالى ولذلك حينما نتلوه فإننا نبدأ نفس البداية التى أرادها الله تبارك وتعالى وهى أن تكون البداية بسم الله وأول الكلمات التى نطق بها الوحى لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت

( إقرأ باسم ربك الذى خلق ) هكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته فى الكون هى بسم الله ونحن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية .

ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام فى غار حراء حينما جاءه جبريل وكان أول لقاء بين الملك الذى يحمل الوحى بالقرآن وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى ( إقرأ ) .

وأقرأ تتطلب أن يكون الإنسان إما حافظا لشىء يحفظه أو أمامه شىء مكتوب ليقرأه ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حافظا لشىء يقرؤه وما كان أمامه كتاب ليقرأ منه وحتى لو كان أمامه كتاب فهو أمى لا يقرأ ولا يكتب .

وعندما قال جبريل ( إقرأ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما أنا بقارىء ) وكان الرسول عليه الصلاة والسلام منطقيا مع قدراته وتردد القول ثلاث مرات جبريل عليه السلام بوحى من الله سبحانه وتعالى يقول للرسول ( إقرأ ) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( ما أنا بقارىء ) ولقد أخذ خصوم الإسلام هذه النقطة وقالوا كيف يقول الله لرسوله اقرأ ويرد الرسول ما أنا بقارىء .

نقول إن الله تبارك وتعالى كان يتحدث بقدراته التى تقول للشىء كن فيكون بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ببشريته التى تقول أنه لا يستطيع أن يقرأ كلمة واحدة ولكن قدرة الله هى التى ستأخذ هذا النبى الذى لا يقرأ ولا يكتب لتجعله معلما للبشرية كلها إلى يوم القيامة لأن كل البشر يعلمهم بشر ولكن محمدا صلى الله عليه وسلم سيعلمه الله سبحانه وتعالى ليكون معلما لأكبر علماء البشر يأخذون عنه العلم والمعرفة لذلك جاء الجواب من الله سبحانه وتعالى .

( إقرأ باسم ربك الذى خلق ( 1 ) خلق الإنسان من علق ( 2 ) ) ( سورة العلق ) .

أى أن الله سبحانه وتعالى الذى خلق من عدم سيجعلك تقرأ على الناس ما يعجز علماء الدنيا وحضارات الدنيا على أن يأتوا بمثله وسيكون ما تقرأه وأنت النبى الأمى اعجازا ليس لهؤلاء الذين سيسمعونه منك فقط لحظة نزوله ولكن للدنيا كلها وليس فى الوقت الذى ينزل فيه فقط ولكن حتى قيام الساعة ولذلك قال جل جلاله :

( إقرأ وربك الأكرم ( 3 ) الذى علم بالقلم ( 4 ) ) ( سورة العلق )

أى أن الذى ستقرؤه يا محمد سيظل معلما للإنسانية كلها إلى نهاية الدنيا على الأرض ولأن المعلم هو الله سبحانه وتعالى قال

( إقرأ وربك الأكرم ) مستخدما صيغة المبالغة فهناك كريم وأكرم فأنت حين تتعلم من بشر فهذا دليل على كرم الله جل جلاله لأنه يسر لك العلم على يد بشر مثلك أما إذا كان الله هو الذى سيعلمك يكون ( أكرم ) لأن ربك قد رفعك درجة عالية ليعلمك هو سبحانه وتعالى .

والحق يريد أن يلفتنا إلى أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يقرأ القرآن لأنه تعلم القراءة ولكنه يقرأه بسم الله وما دام بسم الله فلا يهم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم من بشر أو لم يتعلم لأن الذى علمه هو الله وعلمه فوق مستوى البشرية كلها .

فنحن نبدأ بتلاوة القرآن بسم الله لأن الله تبارك وتعالى هو الذى أنزله لنا ويسر لنا أن نعرفه ونتلوه فالأمر لله علما وقدرة ومعرفة وأقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :

( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ( 16 ) ) ( سورة يونس )

لذلك أنت تقرأ القرآن بسم الله لأنه جل جلاله هو الذى يسره لك كلاما وتنزيلا وقراءة ولكن هل نحن مطالبون أن نبدأ فقط تلاوة القرآن بسم الله ؟ إننا مطالبون أن نبدأ كل عمل بسم الله لأننا لا بد أن نحترم عطاء الله فى كونه فحين نزرع الأرض فلا بد أن نبدأ بسم الله لأننا لم نخلق الأرض التى نحرثها ولا خلقنا البذرة التى نبذرها ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع .

إن الفلاح الذى يمسك الفأس ويرمى البذرة قد يكون أجهل الناس بعناصر الأرض ومحتويات البذرة وما يفعله الماء فى التربة لينمو الزرع إن كل ما يفعله الإنسان هو أنه يعمل فكره المخلوق من الله فى المادة المخلوقة من الله بالطاقة التى أوجدها الله فى أجسادنا ليتم الزرع .

والإنسان لا قدرة له على إرغام الأرض لتعطيه الثمار ولا قدرة له على خلق الحبة لتنمو وتصبح شجرة ولا سلطان له على إنزال الماء من السماء فكأنه حينما يبدأ العمل بسم الله يبدؤه بسم الله الذى سخر له الأرض وسخر له الحب وسخر له الماء وكلها لا قدرة له عليها ولا تدخل فى طاقته ولا فى استطاعته فكأنه يعلن أنه يدخل على هذه الأشياء جميعا بسم من سخرها له .

والله تبارك وتعالى سخر لنا الكون جميعا وأعطانا الدليل على ذلك فلا تعتقد أن لك قدرة أو ذاتية فى هذا الكون ولا تعتقد أن الأسباب والقوانين فى الكون لها ذاتية بل هى تعمل بقدرة خالقها الذى إن شاء أجراها وإن شاء أوقفها .

الجمل الضخم والفيل الهائل المستأنس قد يقودهما طفل صغير فيطيعانه ولكن الحية صغيرة الحجم لا يقوى أى إنسان على أن يستأنسها ولو كنا نفعل ذلك بقدراتنا لكان استئناس الحية أو الثعبان سهلا لصغر حجمهما ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعلهما مثلا لنعلم أنه بقدراته هو قد أخضع لنا ما شاء ولم يخضع لنا ما شاء ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :

( أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ( 71 ) وذللنها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ( 72 ) )

( سورة يس ) .

وهكذا نعرف أن خضوع هذه الأنعام لنا هو بتسخير الله لها وليس بقدرتنا ويأتى الله سبحانه وتعالى إلى أرض ينزل عليها المطر بغزارة والعلماء يقولون إن هذا يحدث بقوانين الكون فيلفتنا الله تبارك وتعالى إلى خطأ هذا الكلام بأن تأتى مواسم جفاف لا تسقط فيها حبة مطر واحدة لنعلم أن المطر لا يسقط بقوانين الكون ولكن بإرادة خالق الكون فإذا كانت القوانين وحدها تعمل فمن الذى عطلها ؟ ولكن إرادة الخالق فوق القوانين إن شاءت جعلتها تعمل وإن شاءت جعلتها لا تعمل إذن فكل شىء فى الكون بسم الله هو الذى سخر وأعطى وهو الذى يمنح ويمنع حتى فى الأمور التى للإنسان فيها نوع من الاختيار وأقرأ قول الحق تبارك وتعالى :

( لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ( 49 ) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير ( 50 ) ) ( سورة الشورى ) .

والأصل فى الذرية أنها تأتى من اجتماع الذكر والأنثى هذا هو القانون ولكن القوانين لا تعمل إلا بأمر الله لذلك يتزوج الرجل والمرآة ولا تأتى الذرية لأنه ليس القانون هو الذى يخلق ولكنها إرادة خالق القانون إن شاء جعله يعمل وإن شاء يبطل عمله والله سبحانه وتعالى لا تحكمه القوانين ولكن هو الذى يحكمها .  

وكما أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل القوانين تفعل أو لا تفعل فهو قادر على أن يخرق القوانين فقصة زكريا عليه السلام كان يكفل مريم ويأتيها بكل ما تحتاجه ودخل عليها ليجد عندها ما لم يحضره لها وسألها وهى القديسة العابدة الملازمة لمحرابها ( قلنا يا مريم أنا لك هذا ( 37 ) ) ( سورة آل عمران ) .

الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة مع أن مريم بسلوكها وعبادتها وتقواها فوق كل الشبهات ولكن لنعرف أن الذى يفسد الكون هو عدم السؤال عن مصدر الأشياء التى تتناسب مع قدرات من يحصل عليها فالأم ترى الأب ينفق ما لا يتناسب مع مرتبه وترى الإبنة ترتدى ما هو أكبر كثيرا من مرتبها أو مصروفها ولو سألت الأم أو الإبنة من أين لك هذا ؟ لما فسد المجتمع ولكن الفساد يأتى من أننا نغمض أعيننا عن المال الحرام فبماذا ردت مريم عليها السلام ( قالت هو من عند الله إن الله يرزق من يشاء بغير حساب ( 37 ) )

( سورة آل عمران ) .

إذن فطلاقة قدرة الله لا يحكمها قانون لقد لفتت مريم زكريا عليهما السلام إلى طلاقة القدرة فدعا زكريا ربه فى قضية لا تنفع فيها إلا طلاقة القدرة فهو رجل عجوز وامرأته عجوز وعاقر ويريد ولدا هذه قصة ضد قوانين الكون لأن الانجاب لا يتم إلا وقت الشباب فإذا كبر الرجل وكبرت المرأة لا ينجبان فما بالك إذا كانت الزوجة أساسا عاقرا لم تنجب وهى شابه وزوجها شاب فكيف تنجب وهى عجوز وزوجها عجوز ولكن اله وحده القادر على أن يأتى بالقانون وضده ولذلك شاء أن يرزق زكريا بالولد وكان ورزق زكريا بإبنه يحيى .

إذن كل شىء فى هذا الكون باسم الله يتم باسم الله وبإذن من الله الكون تحكمه الأسباب نعم ولكن إرادة الله فوق كل الأسباب .

أنت حين تبدأ كل شىء باسم الله كأنك تجعل الله فى جانبك يعينه ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شىء باسم الله لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى والفعل يحتاج إلى صفات متعددة فأنت حين تبدأ عملا تحتاج لقدرة الله وإلى قوته وإلى عونه وإلى رحمته فلو أن الصفات التى نحتاج إليها كأن نقول باسم الله القوى وبسم الله الرزاق وبسم الله المجيب  لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات حيث كان علينا أن نحدد المجيب وباسم الله القادر وبسم الله النافع إلى غير ذلك من الأسماء والصفات  التى نريد أن نستعين بها ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول باسم الله الجامع لكل هذه الصفات .

على أننا لا بد ان نقف عند الذين لا يبدأون أعمالهم باسم الله وإنما يريدون الجزاء المادى وحده إنسان غير مؤمن لا يبدأ عمله بسم الله وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفى باله الله كلاهما ياخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع له عطاء ربوبية لكل خلقه الذى استدعاهم للحياة ولكن الدنيا ليست هى الحياة الحقيقية للإنسان بل الحياة الحقيقية هى الاخرة الذى فى باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء الربوبية بقدر عطاء الله فى الدنيا والذى فى باله الله يأخذ بقده عطاء الله فى الدنيا والآخرة ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :

( الحمد لله الذى له ما فى السموات وما فى الأرض وله الحمد فى الأخرة وهو الحكيم الخبير ( 1 ) ) سورة سبأ / لأن المؤمن يحمد الله على نعمه فى الدنيا ثم يحمده عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة فى الآخرة فلله الحمد فى الدنيا والآخرة ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كل إمرىء ذى بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم أقطع ) ومعنى أقطع أى مقطوع الذنب أو الذيل أى عمل نقص فيه شىء ضائع لأنك حين لا تبدأ العمل بسم الله قد يصادفك الغرور والطغيان بأنك أنت الذى سخرت ما فى الكون ليخدمك وينفعل لك وحين لا تبدأ العمل بسم الله فليس لك عليه جزاء فى الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه فى الدنيا وبترت أو قطعت عطاءه فى الآخرة فإذا كنت تريد عطاء الدنيا ةالآخرة أقبل على كل عمل بسم الله قبل أن تأكل قل بسم الله لأنه هو الذى خلق لك هذا الطعام ورزقك به وعندما تدخل الامتحان قل بسم الله فيعينك على النجاح وعندما تدخل إلى بيتك قل بسم الله لأنه هو الذى يسر لك هذا البيت عندما تتزوج قل بسم الله لأنه هو الذى خلق هذه الزوجة وأباحها لك فى كل عمل تفعله إبدأ بسم الله الرحمن الرحيم لأنها تمنعك من أى عمل يغضب الله سبحانه وتعالى فأنت لا تستطيع أن تبدأ عملا يغضب الله سبحانه وتعالى فأنت لا تستطيع أن تبدأ عملا يغضب الله بسم الله الرحمن الرحيم إذا أردت أن تسرق أو أن تشرب الخمر أو أن تعمل عملا يغضب الله وتذكرت باسم الله الرحمن الرحيم فإنك ستمتنع عنه ستستحى أن تبدأ عملا بسم الله يغضب الله وهكذا ستكون أعمال الإنسان كلها فيما أباحه الله عز وجل .

الله تبارك وتعالى حين نبدأ قراءة كلامه ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فنحن نقرأ هذا الكلام لأنه من الله والله هو الإله المعبود فى كونه ومعنى معبود أنه يطاع فيما يأمر به ولا نقدم على ما نهى عنه فكأنك تستقبل القرآن الكريم بعطاء الله فى العبادة وبطاعته فى افعل ولا تفعل وهذا هو المقصود أن نبدأ قراءة القرآن بسم الله الذى آمنت به ربا وإلها والذى عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما ينهى والذى بموجب عبادتك لله سبحانه وتعالى تقرأ كتابه لتعمل بما فيه والذى خلق وأوجد ويحيى ويميت وله الأمر فى الدنيا والآخرة والذى ستقف أمامه يوم القيامة ليحاسبك أحسنت أم أسأت فالبداية من الله والنهاية من الله سبحانه وتعالى .

فبعض الناس يتساءل كيف أبدأ بسم الله وقد عصيت وقد خالفت نقول إياك أن تستحى أن تقرأ القرآن وأن تبدأ بسم الله إذا كنت قد عصيت ولذلك أعطانا الله سبحانه وتعالى الحيثية التى نبدأ بها قراءة القرآن فجعلنا نبدأه / بسم الله الرحمن الرحيم / فالله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن العاصى بل يفتح له باب التوبة ويحثه عليها ويطلب منه أن يتوب وأن يعود إلى الله فيغفر له ذنبه لأن سبحانه وتعالى يطلب من كل عاص أن يعود إلى حظيرة الإيمان وهو رحمن رحيم فإذا قلت كيف أقول بسم الله وقد وقعت فى معصية أمس نقول لك قل بسم الله الرحمن الرحيم فرحمة الله تسع كل ذنوب خلقه وهو سبحانه وتعالى الذى يغفر الذنوب جميعا .

والرحمة والرحمن والرحيم مشتق منها الرحم الذى هو مكان الجنين فى بطن أمه هذا المكان الذى يأتيه فيه الرزق بلا حول ولا قوة ويجد فيه كل ما يحتاجه لنموه ميسرا رزقا من الله سبحانه وتعالى بلا تعب ولا مقابل ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى فى حديث قدسى ( أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ) .

الله سبحانه وتعالى يريد أن نتذكر دائما أنه يحنو علينا ويرزقنا ويفتح لنا أبواب التوبة بابا بعد آخر ونعصى ولا يأخذنا بذنوبنا ولا يحرمنا من نعمه ولا يهلكنا بما فعلنا فنحن نبدأ تلاوة القرآن الكريم العظيم / بسم الله الرحمن الرحيم / لنتذكر دائما أبواب الرحمة المفتوحة لنا نرفع أيدينا إلى السماء ونقول يا رب رحمتك تجاوز عن ذنوبنا وسيئاتنا وبذلك يظل قارىء القرآن متصلا بأبواب رحمة الله كلما ابتعد عن المنهج أسرع ليعود إليه فما دام الله رحمانا ورحيما لا تغلق أبواب الرحمة أبدا ز

فتوجد ملاحظة أن الرحمن والرحيم من صيغ المبالغة يقال راحم ورحمن ورحيم إذا قيل راحم فيه صفة الرحمة وإذا قيل رحمن تكون مبالغة فى الصفة وإذا قيل رحيم تكون مبالغة فى الصفة الله سبحانه وتعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة .

صفات الله سبحانه وتعالى لا تتأرجح بين القوة والضعف وإياكم أن تفهموا أن الله تأتيه الصفات مرة قليلة ومرة كثيرة بل هى صفات الكمال المطلق ولكن الذى يتغير هو متعلقات هذه الصفات إقرأ قول الحق سبحانه وتعالى ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ( 40 ) ) ( سورة النساء ) .

هذه الآية الكريمة نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى ثم تأتى الآية الكريمة بقول الله جل جلاله

( وما ربك بظلام للعبيد ( 46 ) ) ( سورة فصلت ) .

فيوجد ملاحظة استخدام صيغة المبالغة ( ظلام ) أى شديد الظلم وقول الحق سبحانه وتعالى : ليس بظلام لا تنفى الظلم ولكنها تنفى المبالغة فى الظلم تنفى أن يظلم ولو مثقال ذرة نقول لك إنك لم تفهم المعنى إن الله لا يظلم أحدا الآية الأولى نفت الظلم عن الحق تبارك وتعالى ولو مثقال ذرة بالنسبة للعبد والآية الثانية لم تقل للعبد ولكنها قالت للعبيد والعبيد هم كل خلق الله فلو أصاب كل واحد منهم أقل من ذرة من الظلم مع هذه الأعداد الهائلة فإن الظلم يكون كثيرا جدا ولو أنه قليل فى كميته لأن عدد من سيصاب به هائل لذلك فإن الآية الأولى نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى والآية الثانية نفت الظلم عن الله تبارك وتعالى ولكن صيغة المبالغة استخدمت لكثرة عدد الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة .

نأتى بعد ذلك إلى رحمن ورحيم رحمن فى الدنيا لكثرة عدد الذين يشملهم الله سبحانه وتعالى برحمته فرحمة الله فى الدنيا تشمل المؤمن والعاصى والكافر يعطيهم الله مقومات حياتهم ولا يؤاخذهم بذنوبهم يرزق من آمن به ومن لا يؤمن به ويعفو عن كثير إذن عدد الذين تشملهم رحمة الله فى الدنيا هم كل خلقه بصرف النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم .

ولكن فى الآخرة الله رحيم بالمؤمنين فقط فالكفار والمشركون مطرودون من رحمة الله فى الآخرة أقل عددا من الذين تشملهم رحمة الله فى الدنيا فمن أين تأتى المبالغة ؟ تأتى المبالغة فى العطاء وفى الخلود فى العطاء فنعم الله فى الآخرة أكبر كثيرا منها فى الدنيا المبالغة بكثرة النعم وخلودها فكأن المبالغة فى الدنيا بعمومية العطاء والمبالغة فى الآخرة بخصوصية العطاء للمؤمن وكثرة النعم والخلود فيها .

ولقد اختلف عدد العلماء حول ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وهى موجودة فى ( 113 سورة ) من القرآن الكريم هل هى من آيات السور نفسها بمعنى أن كل سورة تبدأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) تحسب البداية على أنها الآية الأولى من السورة أم أنها حسبت فقط فى فاتحة الكتاب ثم تعتبر فواصل بين السور .

وقال العلماء أن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) آية من آيات القرآن الكريم العظيم ولكنها ليست آية من كل سورة ما عدا فاتحة الكتاب فهى آية من الفاتحة وهناك سورة واحدة فى القرآن الكريم لا تبدأ ب ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وهى سورة التوبة وتكررت ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فى الآية ( 30 ) من سورة النمل فى قوله تعالى ( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( 30 ) ) ( سورة النمل ) .

 

بداية سورة الفاتحة

بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ (1)

القرآن الكريم منذ اللحظة التى نزل فيها نزل مقرونا بسم الله سبحانه وتعالى فحينما نتلوه فإننا نبدأ نفس البداية التى أرادها الله تبارك وتعالى وهى أن تكون البداية بسم الله وأول الكلمات التى نطق بها الوحى لمحمد صلى الله عليه وسلم كانت ( إقرأ باسم ربك الذى خلق ) وهكذا كانت بداية نزول القرآن الكريم ليمارس مهمته فى الكون هى بسم الله ونحن حينما نقرأ القرآن نبدأ نفس البداية .

ولقد كان محمد عليه الصلاة والسلام فى غار حراء حينما جاءه جبريل وكان أول لقاء بين الملك الذى يحمل الوحى بالقرآن وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الحق تبارك وتعالى ( إقرأ ) .

و ( إقرأ ) تتطلب أن يكون الإنسان إما حافظا لشىء يحفظه أو أمامه شىء مكتوب ليقرأه ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حافظا لشىء يقرؤه وما كان أمامه كتاب ليقرأ منه وحتى لو كان أمامه كتاب فهو أمى لا يقرأ ولا يكتب .

وعندما قال جبريل ( إقرأ ) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ما أنا بقارىء ) وكان الرسول عليه الصلاة والسلام منطقيا مع قدراته وتردد القول ثلاث مرات جبريل عليه السلام بوحى من الله سبحانه وتعالى يقول للرسول ( إقرأ ) ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول

( ما أنا بقارىء ) ولقد أخذ خصوم الإسلام هذه النقطة وقالوا كيف يقول الله لرسوله ( إقرأ ) ويرد الرسول

( ما أنا بقارىء ) .

إن الله تبارك وتعالى كان يتحدث بقدراته التى تقول للشىء كن فيكون بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث ببشريته التى تقول أنه لا يستطيع أن يقرأ كلمة واحدة ولكن قدرة الله هى التى ستأخذ هذا النبى الذى لا بقرأ ولا يكتب لتجعله معلما للبشرية كلها إلى يوم القيامة لأن كل البشر يعلمهم بشر ولكن محمدا صلى الله عليه السلام سيعلمه الله سبحانه وتعالى ليكون معلما لأكبر علماء البشر يأخذون عنه العلم والمعرفة لذلك جاء الجواب من الله سبحانه وتعالى ( إقرأ باسم ربك الذى خلق ( 1 ) خلق الإنسان من علق ( 2 ) )

( سورة العلق ) .

أى أن الله سبحانه وتعالى الذى خلق من عدم سيجعلك تقرأ على الناس ما يعجز عنه علماء الدنيا وحضارات الدنيا على أن يأتوا بمثله وسيكون ما تقرآه وأنت النبى الأمى اعجازا ليس لهؤلاء الذين سيسمعونه منك فقط لحظة نزوله ولكن للدنيا كلها وليس فى الوقت الذى ينزل فيه فقط ولكن حتى قيام الساعة ولذلك قال جل جلاله ( إقرأ وربك الأكرم ( 3 ) الذى علم بالقلم ( 4 ) ) ( سورة العلق ) .

أى أن الذى ستقرؤه يا محمد سيظل معلما للإنسانية كلها إلى نهاية الدنيا على الأرض ولأن المعلم هو الله سبحانه وتعالى قال ( إقرأ وربك الأكرم ) مستخدما صيغة المبالغة فيوجد كريم وأكرم فأنت حين تتعلم من بشر فهذا دليل على كرم الله جل جلاله لأنه يسر لك العلم على يد بشر مثلك أما إذا كان الله هو الذى سيعلمك يكون

( أكرم ) لأن ربك قد رفعك درجة عالية ليعلمك هو سبحانه وتعالى .

والحق يريد أن يلقتنا إلى أن محمدا عليه الصلاة والسلام لا يقرأ القرآن لأنه تعلم القراءة ولكنه يقرأه بسم الله وما دام بسم الله الرحمن الرحيم فلا يهم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم تعلم من بشر أو لم يتعلم لأن الذى علمه هو الله وعلمه فوق مستوى البشرية كلها .

فنحن نبدأ بتلاوة القرآن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) لأن الله تبارك وتعالى هو الذى أنزله لنا ويسر لنا أن نعرفه ونتلوه فالأمر لله علما وقدرة ومعرفة و إقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :

( قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون ( 16 ) )

( سورة يونس ) .

لذلك أنت تقرأ القرآن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) لأنه جل جلاله هو الذى يسره لك كلاما وتنزيلا وقراءة ولكن هل نحن مطالبون أن نبدأ تلاوة القرآن بسم الله ؟ إننا مطالبون أن نبدأ كل عمل بسم الله الرحمن الرحيم لأننا لا بد أن نحترم عطاء الله فى كونه فى حين نزرع الأرض لا بد أن نبدأ باسم الله لأننا لم نخلق الأرض التى نحرثها ولا خلقنا البذرة التى نبذرها ولا أنزلنا الماء من السماء لينمو الزرع .

إن الفلاح الذى يمسك الفأس ويرمى البذرة قد يكون أجهل الناس بعناصر الأرض ومحتويات البذرة وما يفعله الماء فى التربة لينمو الزرع إنه كل ما يفعله الإنسان هو أنه يعمل فكرة المخلوق من الله فى المادة المخلوقة من الله بالطاقة التى أوجدها الله فى أجسادنا ليتم الزرع .

والإنسان لا قدرة له على إرغام الأرض لتعطيه الثمار ولا قدرة له على خلق الحبة لتنمو وتصبح شجرة ولا سلطان له على إنزال الماء من السماء فكأنه حينما يبدأ العمل بسم الله يبدؤه بسم الله الذى سخر له الأرض وسخر له الحب وسخر له الماء وكلها لا قدرة له عليها ولا تدخل فى طاقته ولا فى استطاعته فكأنه يعلن أنه يدخل على هذه الأشياء جميعا بسم الله من سخرها له .

والله تبارك وتعالى سخر لنا الكون جميعا وأعطانا الدليل على ذلك فلا تعتقد أن لك قدرة أو ذاتية فى هذا الكون ولا تعتقد أن الأسباب والقوانين فى الكون لها ذاتية بل هى تعمل بقدرة خالقها الذى إن شاء أجراها وإن شاء أوقفها .

الجمل الضخم والفيل الهائل المستأنس قد يقودهما طفل صغير فيطيعانه ولكن الحية صغيرة الحجم لا يقوى أى إنسان على أن يستأنسها ولو كنا نفعل ذلك بقدراتنا لكان استئناس الحية أو الثعبان سهلا لصغر حجمهما ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن يجعلهما مثلا لنعلم أنه بقدراته هو قد أخضع لنا ما شاء ولم يخضع لنا ما شاء ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :

( أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون ( 71 ) وذللنها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ( 72 ) ) ( سورة يس ) .

وهكذا نعرف أن خضوع هذه الأنعام لنا هو بتسخير الله لنا وليس بقدرتنا ويأتى الله سبحانه وتعالى إلى أرض ينزل فيها المطر بغزارة والعلماء يقولون إن هذا يحدث بقوانين الكون فيلفتنا الله تبارك وتعالى إلى خطأ هذا الكلام بأن تأتى مواسم جفاف لا تسقط فيها حبة مطر واحدة لنعلم أن المطر لا يسقط بقوانين الكون ولكن بإرادة خالق الكون فإذا كانت القوانين وحدها تعمل فمن الذى عطلها ؟ ولكن إرادة الخالق فوق القوانين إن شاءت جعلتها تعمل وإن شاءت جعلتها لا تعمل إذن فكل شىء فى الكون بسم الله هو الذى سخر وأعطى وهو الذى يمنح ويمنع حتى فى الأمور التى للإنسان فيها نوع من الاختيار وإقرأ قول الحق سبحانه وتعالى :

( لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور ( 49 ) أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير ( 50 ) ) ( سورة الشورى ) .

والأصل فى الذرية أنها تأتى من اجتماع الذكر والأنثى هذا هو القانون ولكن القوانين لا تعمل إلا بأمر الله لذلك يتزوج الرجل والمرآة ولا تأتى الذرية لأنه ليس القانون هو الذى يخلق ولكنها إرادة خالق القانون إن شاء جعله يعمل وإن شاء يبطل عمله والله سبحانه وتعالى لا تحكمه القوانين ولكنه هو الذى يحكمها .

وكما أن الله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعل القوانين تفعل أو لا تفعل فهو قادر على أن يخرق القوانين فقصة زكريا عليه السلام كان يكفل مريم ويأتيها بكل ما تحتاجه ودخل عليها ليجد عندها ما لم يحضره لها وسألها وهى القديسة العابدة الملازمة لمحرابها ( قال يا مريم أنى لك هذا ( 37 ) ) ( سورة آل عمران ) .

الحق سبحانه وتعالى يعطينا هذه الصورة مع أن مريم بسلوكها وعبادتها وتقواها فوق كل الشبهات ولكن لنعرف أن الذى يفسد الكون هو عدم السؤال عن مصدر الأشياء التى تتناسب مع قدرات من يحصل عليها .

الأم ترى الأب ينفق ما لا يتناسب مع مرتبه وترى الإبنة ترتدى ما هو أكبر كثيرا من مرتبها أو مصروفها ولو سألت الأم أو الإبنة من أين لك هذا ؟ لما فسد المجتمع ولكن الفساد يأتى من أننا نغمض أعيننا عن المال الحرام فبماذا ردت مريم عليها السلام ؟

( قالت هو من عند الله إن الله برزق من يشاء بغير حساب ( 37 ) ) ( سورة آل عمران )

إذن فطلاقة قدرة الله لا يحكمها قانون لقد لفتت مريم زكريا عليهما السلام إلى طلاقة القدرة فدعا زكريا ربه فى قضية لا تنفع فيها إلا طلاقة القدرة فهو رجل عجوز وامرأته عجوز وعاقر ويريد ولدا هذه قضية ضد قوانين الكون لأن الانجاب لا يتم إلا وقت الشباب فإذا كبر الرجل وكبرت المرأة لا ينجبان فما بالك إذا كانت الزوجة أساسا عاقرا لم تنجب وهى شابة وزوجها شاب فكيف تنجب وهى عجوز وزوجها عجوز هذه مسألة ضد القوانين التى تحكم البشر ولكن الله وحده القادر على أن يأتى بالقانون وضده ولذلك شاء أن يرزق زكريا بالولد وكان ورزق زكريا بإبنه يحيى .

إذن كل شىء فى هذا الكون بسم الله يتم بسم الله وبإذن من الله فالكون تحكمه الأسباب نعم ولكن إرادة الله فوق كل الأسباب .

فحين نبدأ كل شىء بسم الله كأنك تجعل الله فى جانبك يعينك ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا أن نبدأ كل شىء بسم الله لأن الله هو الاسم الجامع لصفات الكمال سبحانه وتعالى والفعل يحتاج إلى صفات متعددة فحين نبدأ عملا نحتاج إلى قدرة الله وإلى قوته وإلى عونه وإلى رحمته فلو أن الله سبحانه وتعالى لم يخبرنا بالاسم الجامع لكل الصفات كان علينا أن نحدد الصفات التى نحتاج إليها كأن نقول بسم الله القوى وبسم الله الرزاق وبسم الله المجيب وبسم الله القادر وبسم الله النافع إلى غير ذلك من الأسماء والصفات التى نريد أن نستعين بها ولكن الله تبارك وتعالى جعلنا نقول بسم الله الجامع لكل هذه الصفات .

على أننا لا بد أن نقف هنا عند الذين لا يبدأون أعمالهم بسم الله وإنما يريدون الجزاء المادى وحده إنسان غير مؤمن لا يبدأ عمله بسم الله وإنسان مؤمن يبدأ كل عمل وفى باله الله كلاهما يأخذ من الدنيا لأن الله رب للجميع له عطاء ربوبية لكل خلقه الذين استدعاهم للحياة ولكن الدنيا ليست هى الحياة الحقيقية للإنسان بل الحياة الحقيقية هى الآخرة فالذى فى باله الدنيا وحدها يأخذ بقدر عطاء الربوبية بقدر عطاء الله فى الدنيا والذى فى باله الله يأخذ بقدر عطاء الله فى الدنيا والآخرة ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى :

( الحمد لله الذى له ما فى السماوات وما فى الأرض وله الحمد فى الآخرة وهو الحكيم الخبير ( 1 ) )

( سورة سبأ ) .

لأن المؤمن يحمد الله على نعمه فى الدنيا ثم يحمده عندما ينجيه من النار والعذاب ويدخله الجنة فى الآخرة فلله الحمد فى الدنيا والآخرة .

ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال ( كل أمر ذى بال لا يبدأ فيه بسم الله الرحمن الرحيم أقطع ) .

ومعنى أقطع أى مقطوع الذنب أو الذيل أى عمل ناقص فيه شىء ضائع لأن حينما لا نبدأ العمل بسم الله قد يصادفنا الغرور والطغيان بأن الإنسان هو الذى سخر ما فى الكون ليخدمه وينفعل له وحين لا نبدأ العمل بسم الله فليس لك عليه جزاء فى الآخرة فتكون قد أخذت عطاءه فى الدنيا وبترت أو قطعت عطاءه فى الآخرة فإذا كنت تريد عطاء الدنيا والآخرة أقبل على كل عمل بسم الله قبل أن تـأكل قل بسم الله لأنه هو الذى خلق لك هذا الطعام ورزقك به عندما تدخل الامتحان قل بسم الله فيعينك على النجاح عندما تدخل إلى بيتك قل بسم الله لأنه هو الذى يسر لك هذا البيت عندما تتزوج قل بسم الله لأنه هو الذى خلق هذه الزوجة وأباحها لك فى كل عمل تفعله ابدأ بسم الله لأنها تمنعك من أى عمل يغضب الله سبحانه وتعالى فنحن لا نستطيع أن نبدأ عملا يغضب الله بسم الله إذا أردت أن تسرق أو أن تشرب الخمر أو أن تفعل عملا يغضب الله وتذكرت بسم الله فإنك ستمتنع عنه ستستحى أن نبدأ عملا بسم الله يغضب الله وهكذا ستكون أعمال الإنسان كلها فيما أباحه الله للإنسان .

الله تبارك وتعالى حين نبدأ قراءة كلامه بسم الله فنحن نقرأ هذا الكلام لأنه من الله والله هو الإله المعبود فى كونه ومعنى معبود أنه يطاع فيما يأمر به ولا نقدم على ما نهى عنه فكأنك تستقبل القرآن الكريم بعطاء الله فى العبادة وبطاعته فى افعل ولا تفعل وهذا هو المقصود أن نبدأ قراءة القرآن بسم الله الذى آمنت به ربا وإلها والذى عاهدته على أن تطيعه فيما أمر وفيما ينهى والذى بموجب عبادة الإنسان لله سبحانه وتعالى تقرأ كتابه لتعمل بما فيه والذى خلق وأوجد ويحيى ويميت وله الأمر فى الدنيا والآخرة والذى سيقف الإنسان أمام الله يوم القيامة ليحاسب الإنسان أحسن أم أساء فالبداية من الله والنهاية إلى الله سبحانه وتعالى .

بعض الناس يتساءل كيف أبدأ بسم الله وقد عصيت وقد خالفت نقول إياك أن تستحى أن تقرأ القرآن وأن تبدأ بسم الله إذا كنت قد عصيت ولذلك أعطانا الله سبحانه وتعالى الحيثية التى نبدأ بها قراءة القرآن فجعلنا نبدأه بسم الله الرحمن الرحيم فالله سبحانه وتعالى لا يتخلى عن العاصى بل يفتح له باب التوبة ويحثه عليها ويطلب منه أن يتوب وأن يعود إلى الله فبغفر له ذنبه لأن سبحانه وتعالى يطلب من كل عاص أن يعود إلى حظيرة الإيمان وهو رحمن رحيم فإذا قلت كيف أقول بسم الله وقد وقعت فى معصية أمس نقول لك قل بسم الله الرحمن الرحيم فرحمة الله تسع كل ذنوب خلقه وهو سبحانه وتعالى الذى يغفر الذنوب جميعا .

والرحمة والرحمن والرحيم مشتق منها الرحم الذى هو مكان الجنين فى بطن أمه هذا المكان الذى يأتى فيه الرزق للجنين بلا حول ولا قوة ويجد فيه كل ما يحتاجه لنموه ميسرا رزقا من الله سبحانه وتعالى بلا تعب ولا مقابل انظر إلى حنو الأم على ابنها وحنانها عليه وتجاوزها عن سيئاته وفرحته بعودته إليها ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى فى حديث قدسى ( أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسما من اسمى فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته ) .

الله سبحانه وتعالى يريد أن نتذكر دائما أنه يحنو علينا ويرزقنا ويفتح لنا أبواب التوبة بابا بعد آخر ونعصى فلا يأخذنا بذنوبنا ولا يحرمنا من نعمه ولا يهلكنا بما فعلنا ولذلك فنحن نبدأ تلاوة القرآن الكريم بسم الله الرحمن الرحيم لنتذكر دائما أبواب الرحمة المفتوحة لنا نرفع أيدينا إلى السماء ونقول يا رب رحمتك تجاوز عن ذنوبنا وسيئاتنا وبذلك يظل قارىء القرآن متصلا بأبواب رحمة الله كلما ابتعد عن المنهج أسرع ليعود إليه فما دام الله رحمانا ورحيما لا تغلق أبواب الرحمة أبدا .

فعن طريق ملاحظة أن الرحمن والرحيم من صيغ المبالغة يقال راحم ورحمن ورحيم إذا قيل راحم فيه صفة الرحمة وإذا قيل رحمن تكون مبالغة فى الصفة وإذا قيل رحيم تكون مبالغة فى الصفة والله سبحانه وتعالى رحمن الدنيا ورحيم الآخرة .

صفات الله سبحانه وتعالى لا تتأرجح بين القوة والضعف وإياكم أن تفهموا أن الله تأتيه الصفات مرة قليلة ومرة كثيرة وهى صفات الكمال المطلق ولكن الذى يتغير هو متعلقات هذه الصفات إقرأ قول الحق سبحانه وتعالى ( إن الله لا يظلم مثقال ذرة ( 40 ) ) ( سورة النساء ) .

هذه الآية الكريمة نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى ثم تأتى الآية الكريمة بقول الله جل جلاله :

( وما ربك بظلام للعبيد ( 46 ) ) ( سورة فصلت ) .

فعن طريق استخدام صيغة المبالغة ( ظلام ) أى شديد الظلم وقول الحق سبحانه وتعالى ( ليس بظلام ) لا تنفى الظلم ولكنها تنفى المبالغة فى الظلم تنفى أن يظلم ولو مثقال ذرة نقول إنك لم تفهم المعنى إن الله لا يظلم أحدا الآية الأولى نفت الظلم عن الحق تبارك وتعالى ولو مثقال ذرة بالنسبة للعبد والآية الثانية لم تقل للعبد ولكنها قالت للعبيد والعبيد هم كل خلق الله فلو أصاب كل واحد منهم أقل من ذرة من الظلم مع هذه الأعداد الهائلة فإن الظلم يكون كثيرا جدا ولو أنه قليل فى كميته لأن عدد من سيصاب به هائل ولذلك فإن الآية الأولى نفت الظلم عن الله سبحانه وتعالى والآية الثانية نفت الظلم أيضا عن الله تبارك وتعالى ولكن صيغة المبالغة استخدمت لكثرة عدد الذين تنطبق عليهم الآية الكريمة .

ناتى إلى رحمن ورحبم رحمن فى الدنيا لكثرة الذين يشملهم الله سبحانه وتعالى برحمته فرحمة الله فىى الدنيا تشمل المؤمن والعاصى يعطيهم الله مقومات  حياتهم ولا يؤاخذهم بذنوبهم يرزق من آمن به ولم يؤمن به ويعغو عن كثير إذن الذين تشملهم رحمة الله فى الدنبا هم كل خلقه بصرف النظر عن إيمانهم أو عدم إيمانهم

ولكن فى الأخرة الله رحيم بالمؤمنين فقط فالكفار والمشركون والمنافقون مطرودون من رحمة الله إذن الذين تشملهم رحمة الله فى الأخرة أقل عددا من الذين تشملهم رحمة الله فى الدنيا فمن أين تاتى المبالغة ؟ تأتى المبالغة فى العطاء وفى الخلود فى العطاء فنعم الله فى الآخرة أكبر كثيرا منها فى الدنيا فالمبالغة بكثرة النعم وخلودها فكأن المبالغة فى الدنيا بعمومية العطاء والمبالغة فى الأخرة بخصوصية العطاء للمؤمن وكثرة انعم والخلود فيها .

ولقد اختلف عدد العلماء حول ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وهى موجودة فى ( 113 سورة ) من القرآن الكريم هل هى من آبات السور نفسها بمعنى أن كل سورة تبدأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) تحسب البدابة على أنها الآية الأولى من السورة أم أنها حسبت فقط فى فاتحة الكتاب ثم بعد ذلك تعتبر فواصل بين السور .

وقال العلماء أن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) آية من آيات القرآن الكريم ولكنها ليست آية من كل سورة تبدأ

( بسم الله الرحمن الرحيم ) تحسب البداية على أنها الآية الأولى من السورة أم أنها حسبت فقط فى فاتحة الكتاب ثم تعتبر فواصل بين السور .

وقال العلماء أن ( بسم الله الرحمن الرحيم ) آية من آيات القرآن الكريم ولكنها ليست آية من كل سورة ما عدا فاتحة الكتاب فهى آية من الفاتحة وهناك سورة واحدة فى القرآن الكريم لا تبدأ ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وهى سورة التوبة وتكررت ( بسم الله الرحمن الرحيم ) فى الآية ( 30 ) من سورة النمل فى قوله تعالى

( إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ( 30 ) ) ( سورة النمل ) .

 

  ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَٰلَمِينَ (2)
ٱلرَّحۡمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ (3)

فاتحة الكتاب هى أم الكتاب لا تصلح الصلاة بدونها فالإنسان المؤمن فى كل ركعة تستطيع أن تقرأ آية من القرآن الكريم تختلف عن الآيات التى قرأها الإنسان المؤمن فى صلواته ولكن إذا لم تقرأ الفاتحة فسدت الصلاة ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من صلى صلاة لم يقرأ فيها أم القرآن فهى خداج ثلاثا غير تام ) أى غير صالحة .

فالفاتحة أم الكتاب التى لا تصلح الصلاة بدونها والله سبحانه وتعالى يقول فى حديث قدسى ( قسمت الصلاة بينى وبين عيدى نصفين ولعبدى ما سأل فإذا قال العبد الحمد لله رب العالمين قال الله عز وجل حمدنى عبدى فإذا قال الرحمن الرحيم قال الله عز وجل أثنى على عبدى فإذا قال مالك يوم الدين قال الله عز وجل مجدنى عبدى فإذا قال إياك نعبد وإياك نستعين قال الله عز وجل هذا بينى وبين عبدى ولعبدى ما سأل وإذا قال ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ) قال الله عز وجل هذا لعبدى ولعبدى ما سأل .

وعلينا الانتباه ونحن نقرأ هذا الحديث القدسى أن الله تعالى يقول ( قسمت الصلاة بينى وبين عبدى ولم يقل قسمت الفاتحة بينى وبين عبدى ففاتحة الكتاب هى أساس الصلاة وهى أم الكتاب .

فعن طريق ملاحظة أن هناك ثلاثة أسماء قد تكررت فى ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وفى فاتحة الكتاب وهذه الأسماء هى الله والرحمن والرحيم وفى فاتحة الكتاب وهذه الأسماء هى ( الله / الرحمن / الرحيم ) نقول أنه ليس هناك تكرار فى القرآن الكريم وإذا تكرر اللفظ فيكون معناه فى كل مرة مختلفا عن معناه فى المرة السابقة لأن المتكلم هو الله سبحانه وتعالى ولذلك فهو يضع اللفظ فى مكانه الصحيح وفى معناه الصحيح .

فبسم الله الرحمن الرحيم هو استعانة بقدرة الله حين نبدأ فعل الأشياء إذن فلفظ الجلالة ( الله ) فى ( بسم الله ) معناه الاستعانة بقدرات الله سبحانه وتعالى وصفاته لتكون عونا لنا على ما نفعل ولكن إذا قلنا ( الحمد لله ) فهى شكر لله على ما نفعل ولكن إذا قلنا الحمد لله فهى شكرلله على ما فعل لنا ذلك أننا لا نستطيع أن نقدم الشكر لله إلا أنه استخدمت لفظ الجلالة الجامع لكال صفات الكمال لله تعالى لأننا نحمده عل كل صفاته ورحمته بنا حتى لا نقول ( بسم الله القهار ) ( بسم الله الوهاب )

( بسم الله الكربم ) ( بسم الله الرحمن ) نقول الحمد لله على كمال صفاته فيشهد الحمد كمال الصفات كلها

ويوجد فرق بين ( بسم الله ) الذى نستعين به على ما لا قدرة لنا عليه لأن الله هو الذى سخر كل ما فى هذا الكون وجعله يخدمنا وبين ( الحمد لله ) فإن لفظ الجلالة جاء لنحمد الله على ما فعل لنا فكأن بسم الله فى البسملة طلب العون من الله بكل كمال صفاته .

و ( الرحمن الرحيم ) فى البسملة لها معنى غير ( الرحمن الرحيم ) فى الفاتحة ففى البسملة هى تذكرنا برحمة الله سبحانه وتعالى وغفرانه حتى لا نستحى ولا نهاب أن نستعين بسم الله إن كنا قد فعلنا معصية فالله سبحانه وتعالى يريدنا أن نستعين باسمه دائما فى كل أعمالنا فإذا سقط واحد منا فى معصية قال كيف أستعين بسم الله وقد عصيته ؟ نقول له أدخل عليه سبحانه وتعالى من باب الرحمة فيغفر للإنسان المؤمن ويستعين الله به فيجيبه .

والإنسان حين بسقط فى معصية يستعيذ برحمة الله من عدله لأن عدل الله لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .

وإقرأ قول الله تعالى ( ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه يقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ووجدوا ما عملوا حاضرا ولا يظلم ربك أحدا ( 49 ) ) ( سورة الكهف ) ز

ولولا رحمة الله التى سبقت عدله ما بقى للناس نعمة وما عاش أحد على ظهر الأرض فالله جل جلاله بقول :

( ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى   أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون ( 61 ) ) ( سورة النحل ) .

فالإنسان خلق ضعيفا وخلق هلوعا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ( لا يدخل أحدكم الجنة بعمله إلا أن يتغمدنى الله برحمته قالوا حتى أنت يا رسول الله قال حتى أنا .

فذنوب الإنسان فى الدنيا كثيرة إذا حكم فقد يظلم وإذا ظن فقد يسىء وإذا تحدث فقد يكذب وإذا شهد فقد يبتعد عن الحق و إذا تكلم فقد يغتاب .

هذه ذنوب يرتكبها الإنسان بدرجات متفاوتة ولا يمكن لأحد منا أن ينسب الكمال لنفسه حتى الذين يبذلون أقصى جهدهم فى الطاعة لا يصلون إلى الكمال فالكمال لله وحده ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ( كل ابن  آدم خطاء وخير الخطائين التوابون ) .

ويصف الله سبحانه وتعالى الإنسان فى القرآن الكريم ( وءاتكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار ( 34 ) ) ( سورة ابراهيم ) .

ولذلك أراد الحق سبحانه وتعالى ألا تمنعنا المعصية عن أن ندخل إلى كل إلى كل عمل بسم الله فعلمنا أن نقول ( بسم الله الرحمن الرحيم ) لكى نعرف أن الباب مفتوح للاستعانة بالله وأن المعصية لا تمنعنا من الآستعانة فى كل عمل بسم الله لأنه رحمن رحيم فيكون الله قد أزال وحشتك من المعصية فى الاستعانة به سبحانه وتعالى .

ولكن الرحمن الرحيم فى الفاتحة مقترنة برب العالمين الذى أوجد الإنسان من عدم وأمد الإنسان بنعم لا تعد ولا تحصى فالإنسان يحمده على هذه النععم التى أخذتها برحمة الله سبحانه وتعالى فى ربوبيته ذلك أن الربوبية ليس فيها من القسوة بفدر ما فيها من رحمة .

والله سبحانه وتعالى رب للمؤمن والكافر فهو الذى استدعاهم جميعا إلى الوجود ولذلك فإنه يعطيهم من النعم برحمته وليس بما يستحقون فالشمس تشرق على المؤمن والكافر ولا تحجب أشعتها عن الكافر وتعطيها للمؤمن فقط .

والمطر ينزل على من يعبدون الله ومن يعبدون أوثانا من دون الله والهواء يتنفسه وة قال لا إله إلا الله ومن لم يقلها وكل النعم التى هى من عطاء الربوبية لله هى فى الدنيا لخلقه جميعا وهذه رحمة فالله رب الجميع من أطاعه ومن عصاه وهذه رحمة والله قابل للتوبة وهذه رحمة .

إذن ففى الفاتحة تأتى ( الرحمن الرحيم ) بمعنى رحمة الله فى ربوبيته لخلقه فهو يمهل العاصى ويفتح أبواب التوبة لكل من يلجأ إليه .

وقد جعل الله رحمته تسبق غضبه وهذة رحمة تستوجب الشكر فمعنى ( الرحمن الرحيم ) فى البسملة يختلف عنها فى الفاتحة فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى ( الحمد لله رب العالمين ) فالله محمود لذاته ومحمود لصفاته ومحمود لنعمه ومحمود لرحمته ومحمود لمنهجه ومحمود لقضائه الله محمود قبل أن يخلق من يحمده ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه جعل الشكر له فى كلمتين اثنتين هما ( الحمد لله ) .

والعجيب أنك حين تشكر بشرا على جميل فعله تظل ساعات وساعات تعد كلمات الشكر والثناء وتحذف وتضيف وتأخذ رأى الناس حتى تصل إلى فصيلة وخطاب ملىء بالثناء والشكر ولكن الله سبحانه وتعالى جلت قدرته وعظمته ونعمعه لا تعد ولا تحصى علمنا أن نشكره فى كلمتين اثنتين هما ( الحمد لله ) .

ولعلنا نفهم أن المبالغة فى الشكر للبشر مكروهة لأنها تصيب الإنسان بالغرور والنفاق وتزيد العاصى فى معاصيه فلنقلل من الشكر والثناء للبشر لأننا نشكر الله العظيم لنعمه علينا بكلمتين هما ( الحمد لله ) ومن رحمة الله سبحانه وتعالى أنه علمنا صيغة الحمد فلو أنه تركها دون أن يحددها بكلمتين لكان من الصعب على البشر أن يجدوا  الصيغة المناسبة ليحمدوا الله على الكمال الإلهى فمهما أوتى الناس من بلاغة وقدرة على التعبير فهم عاجزون عن أن يصلوا إلى صيغة الحمد التى تليق بجلال المنعم فكيف نحمد الله والعقل عالجز أن يدرك قدرته أو يحصى نعمه أو يحيط برحمته ؟ ورسول الله صلى الله عليه وسلم أعطانا صورة العجز البشرى عن حمد كمال الألوهية لله فقال ( لا أحصى ثناء عليك أنت كما اثنيت على نفسك .

وكلمتا ( الحمد لله ) ساوى الله بهما بين البشر جميعا فلو أنه ترك الحمد بلا تحديد لتفاوتت درجات الحمد بين الناس بتفاوت قدراتهم على التعبير فهذا أمى لا يقرأ ولا يكتب لا يستطيع أن يجد الكلمات التى يحمد بها الله وهذا عالم له قدرة على التعبير يستطيع أن يأتى بصيغة الحمد بما أوتى من علم وبلاغة وهكذا وهكذا تتفاوت درجات البشر فى الحمد طبقا لقدرتهم فى منازل الدنيا ولكن الحق تبارك وتعالى شاء عدله أن يسوى بين عباده جميعا فى صيغة الحمد له فيعلمنا أن أول كلماته فى القرآن الكريم أن نقول ( الحمد لله ) ليعطى الفرصة المتساوية لكل عبيده بحيث يستوى المتعلم وغير المتعلم فى عطاء الحمد ومن أوتى البلاغة ومن لا يحسن الكلام .

ولذلك فإننا نحمد الله سبحانه وتعالى على أنه علمنا كيف نحمده وليظل العبد دائما حامدا ويظل الله دائما محمودا فالله سبحانه وتعالى قبل أن يخلقنا خلق لنا موجبات الحمد من النعم فخلق لنا السموات والأرض وأوجد لنا الماء والهواء ووضع فى الأرض أقواتها إلى يوم القيامة وهذه نعمة تستحق الحمد عليها لأنه جل جلاله جعل النعمة تسبق الوجود الإنسانى فعندما خلق الإنسان كانت النعمة موجودة تستقبله بل إن الله جل جلاله قبل أن يخلق آدم أبا البشر جميعا سبقته الجنة التى عاش فيها لا يتعب ولا يشقى فقد خلق فوجد ما يأكله وما يشربه وما يقيم حياته وما يتمتع به موجودا وجاهزا ومعدا قبل الخلق وحينما نزل آدم وحواء إلى الأرض كانت النعمة قد سبقتهما فوجدا ما يأكلانه وما يشربانه وما يقيم حياتهما ولو أن النعمة لم تسبق الوجود الإنسانى وخلقت بعده لهلك الإنسان وهو ينتظر مجىء النعمة .

بل إن العطاء الإلهى للإنسان يعطيه النعمة بمجرد أن يخلق فى رحم أمه فيجد رحما مستعدا لاستقباله وغذاء يكفيه طول مدة الحمل فإذا خرج إلى الدنيا يضع الله فى صدر أمه لبنا ينزل وقت أن يجوع ويمتنع وقت أن يشبع وينتهى عندما تتوقف فترة الرضاعة ويجد أبا وأما يوفران له مقومات حياته حتى يستطيع أن يعول نفسه وكل هذا يحدث قبل أن يصل الإنسان إلى مرحلة التكليف وقبل أن يستطيع أن ينطق الحمد الله .

وهكذا نرى أن النعمة تسبق المنعم عليه دائما فالإنسان حيث يقول ( الحمد لله ) فلأن موجبات الحمد وهى النعمة موجودة فى الكون قبل الوجود الإنسانى .

والله سبحانه وتعالى خلق لنا فى هذا الكون أشياء تعطى الإنسان بغير قدرة منه ودون خضوع له والإنسان عاجز على أن يقدم لنفسه هذه النعم التى يقدمها الحق تبارك وتعالى له بلا جهد فالشمس تعطى الدفء والحياة للأرض بلا مقابل وبلا فعل من البشر والمطر ينزل من السماء دون أن يكون للإنسان جهد فيه أو قدرة على إنزاله والهواء موجود حول الإنسان فى كل مكان يتنفس فيه الإنسان دون جهد منه ولا قدرة والأرض تعطى الإنسان الثمر بمجرد أن يبذر فيها الحب ويسقيه فالزرع ينبت بقدرة الله والليل والنهار يتعاقبان حتى يستطيع الإنسان أن ينام ليرتاح وأن يسعى لحياته لا الإنسان أتى بضوء النهار ولا الإنسان الذى صنع ظلمة الليل ولكن الإنسان أخذ الراحة فى الليل والعمل فى النهار بقدرة الله دون أن يفعل الإنسان شيئا

كل هذه الأشياء لم يخلقها الإنسان ولكنه خلق ليجدها فى الكون تعطيه بلا مقابل ولا جهد منه ألا تستحق أن نقول الحمد لله على نعمة تسخير الكون لخدمة الإنسان ؟ إنها تقتضى وجوب الحمد .

وآيات الله سبحانه وتعالى فى كونه تستوجب الحمد فالحياة التى وهبها الله لنا والآيات التى أودعها فى كونه لتدلنا على أن لهذا الكون خالقا عظيما فالكون بشمسه وقمره ونجومه وأرضه وكل ما فيه مما يفوق قدرة الإنسان ولا يستطيع أحد أن يدعيه لنفسه فلا أحد مهما بلغ علمه يستطيع أن يدعى أنه خلق الشمس أو أوجد النجوم أو وضع الأرض أو وضع قوانين الكون أو أعطى الأرض غلافها الجوى أو خلق نفسه أو خلق غيره .

هذه الآيات كلها أعطتنا الدليل على وجود قوة عظمى هى التى أوجدت وهى التى خلقت وهذه الآيات ليست ساكنة لتجعلنا فى سكونها ننساها بل هى متحركة لتلفتنا إلى خالق هذا الكون العظيم .

فالشمس تشرق فى الصباح فتذكرنا باعجاز الخلق وتغيب فى المساء لتذكرنا بعظمة الخالق وتعاقب الليل والنهار يحدث أمامنا كل يوم علنا نلتفت ونفيق والمطر ينزل من السماء ليذكرنا بألوهية من أنزله والزرع يخرج من الأرض يسقى بماء واحد ومع ذلك فإن كل نوع له لون وله شكل وله مذاق وله رائحة وله تكوين يختلف عن الآخر ويأتى الحصاد فيختفى الثمر والزرع ويأتى موسم الزراعة فيعود من جديد .

كل شىء فى هذا الكون متحرك ليذكرنا إذا نسينا ويعلمنا أن هناك خالقا عظيما ونستطيع أن نمضى فى ذلك بلا نهاية فنعم الله لا تعد ولا تحصى وكل واحدة منها تدلنا على وجود الحق سبحانه وتعالى وتعطينا الدليل الإيمانى على أن لهذا الكون خالقا مبدعا وأنه لا أحد يستطيع أن يدعى أنه خلق الكون أو خلق ما فيه فالقضية محسومة لله و ( الحمد لله ) لأنه وضع فى نفوسنا الإيمان الفطرى ثم أيده بإيمان عقلى بآياته فى كونه .

بل إن كل شىء فى هذا الكون يقتضى الحمد ومع ذلك فإن الإنسان يمتدح الوجود وينسى الموجود فالإنسان حين يرى جوهرة جميلة أو زهرة غاية فى الإبداع أو أى خلق من خلق الله يشيع فى نفس الإنسان الجمال تمتدح هذا الخلق فتقول ما أجمل هذه الزهرة أو هذه الجوهرة أو هذا المخلوق ولكن تكون جميلة أو غير جميلة والجوهرة لا دخل لها فى عظمة خلقها وكل شىء فى هذا الكون لم يضع الجمال لنفسه وإنما الذى وضع الجمال فيه هو الله سبحانه وتعالى فلا نخلط ونمدح المخلوق وننسى الخالق بل قل الحمد لله الذى أوجد فى الكون ما يذكرنا بعظمة الخالق ودقة الخلق .

ومنهج الله سبحانه وتعالى يقتضى منا الحمد لأن الله أنزل منهجه ليرينا طريق الخير ويبعدنا عن طريق الشر فمنهج الله الذى أنزله على رسله قد عرفنا أن الله تبارك وتعالى هو الذى خلق لنا هذا الكون وخلقنا فدقة الخلق وعظمته تدلنا على أن هناك خالقا عظيما ولكنها لا تستطيع أن تقول لنا من هو ولا ماذا يريد منا ولذلك أرسل الله رسله ليقولوا لنا إن الذى خلق هذا الكون وخلقنا هو الله تبارك وتعالى وهذا يستوجب الحمد .

ومنهج الله بين لنا ماذا يريد الحق منا وكيف نعبده وهذا يستوجب الحمد ومنهج الله جل جلاله أعطانا الطريق وشرع لنا اسلوب حياتنا تشريعا حقا فالله تبارك وتعالى لا يفرق بين أحد منا ولا يفضل أحدا على أحد إلا بالتقوى فكلنا خلق متساوون أمام الله جل جلاله .

إذن فشريعة الحق وقول الحق وقضاء الحق هو من الله أما تشريعات الناس فلها هوى تميز بعضا عن بعض وتأخذ حقوق بعض لتعطيها للآخرين لذلك نجد فى كل منهج بشرى ظلما بشريا .

فالدول الشيوعية أعضاء اللجنة المركزية فيها هم أصحاب النعم والترف بينما الشعب كله فى شقاء لأن هؤلاء الذين شرعوا اتبعوا هواهم ووضعوا مصالحهم فوق كل مصلحة .

وكذلك فى الدول الرأسمالية أصحاب رأس المال يأخذون كل الخير ولكن الله سبحانه وتعالى حبن نزل لنا المنهج قضى بالعدل بين الناس وأعطى كل ذى حق حقه وعلمنا كيف تستقيم الحياة على الأرض عندما تكون بعيدة عن الهوى البشرى خاضعة لعدل الله وهذا يوجب الحمد .

والحق سبحانه وتعالى يستحق منا الحمد لأنه لا يأخذ منا ولكنه يعطينا فالبشر فى كل عصر يحاولون استغلال البشر لأنهم يطمعون لما فى أيديهم من ثروات وأموال ولكن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج إلى ما فى أيدينا إنه يعطينا ولا يأخذ منا عنده خزائن كل شىء مصداقا لقوله جل جلاله : ( وإن من شىء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم ( 21 ) ) سورة الحجر

فالله سبحانه وتعالى دائم العطاء لخلقه والخلق يأخذون دائما من نعم الله فكأن العبودية لله تعطى الإنسان ولا تأخذ منه وهذا يستوجب الحمد .

والله سبحانه وتعالى فى عطائه يحب أن يطلب منه الإنسان وأن يدعوه وأن يستعين به وهذا يوجب الحمد لأنه يقينا الذل فى الدنيا فالإنسان إذا طلب شيئا من صاحب نفوذ فلا بد أن يحدد للإنسان موعدا أو وقت الحديث ومدة المقابلة وقد يضيق بالإنسان فيقف لينهى اللقاء ولكن الله سبحانه وتعالى بابه مفتوح دائما فالإنسان بين يديه عندما يريد الإنسان ويرفع يديه إلى السماء ويدعو وقتما يحب ويسأل الله ما يشاء فيعطيه ما يريد إن كان خيرا للإنسان ويمنع عنه ما يريد إن كان شرا له .

والله سبحانه وتعالى يطلب من الإنسان أن يدعوه وأن يسأله فيقول :

( وقال ربكم ادعونى أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتى سيدخلهم جهنم داخرين ( 60 ) ) ( سورة غافر ) .

ويقول سبحانه وتعالى ( وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون ( 186 ) ) ( سورة البقرة ) .

والله سبحانة وتعالى يعرف ما فى نفس الإنسان ولذلك فإنه يعطيه دون أن يسأل واقرأ الحديث القدسى : يقول رب العزة

( من شغله ذكرى عن مسألتى أعطيته أفضل ما أعطى السائلين ) .

والله سبحانه وتعالى عطاؤه لا ينفد وخزائنه لا تفرغ فكلما سألته جل جلاله كان لدبه المزيد ومهما سألته فإنه لا شىء عزيز على الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يحققه للإنسان .

إذن عطاء الله سبحانه وتعالى يستوجب الحمد ومنعه العطاء يستوجب الحمد ووجود الله سبحانه وتعالى الواجب الوجود يستوجب الحمد فقد يستحق الحمد لذاته ولولا عدل الله لبغى الناس فى الأرض وظلموا ولكن يد الله تبارك وتعالى حين تبطش بالظالم تجعله عبرة فيخاف الناس الظلم وكل من أفلت من عقاب الدنيا على معاصيه وظلمه واستبداده سيلقى الله فى الآخرة  ليوفيه حسابه وهذا يوجب الحمد أن يعرف المظوم أنه سينال جزاءه فتهدأ نفسه ويطمئن قلبه أن هناك يوما سيرى فيه ظالمه وهو يعذب فى النار فلا تصيبه الحسرة ويخف إحساسه بمرارة الظلم حين يعرف أن الله قائم على كونه لن يفلت من عذابه أحد .

وعندما نقول ( الحمد لله ) فنحن نعبر عن انفعالات متعددة هى فى مجموعها تحمل العبودية والحب والثناء والشكر والعرفان وكثير من الانفعالات التى تملأ النفس عندما تقول الحمد لله كلها تحمل الثناء العاجز عن الشكر لكمال الله وعطائه هذه الانفعالات تأتى من النفس وتستقر فى القلب ثم تفيض من الجوارح على الكون كله .

فالحمد ليس ألفاظا تردد باللسان ولكنها تمر أولا على العقل ليعى معنى النعم ثم بعد ذلك تستقر فى القلب فينفعل بها وتنتقل إلى الجوارح فأقوم وأصلى لله شاكرا ويهتز جسدى كله وتفيض الدمعة من عينى وينتقل هذا الانفعال كله إلى من حولى .

ونفسر ذلك قليلا فهب أن الإنسان فى أزمة أو كرب أو شىء سيؤدى إلى فضيحة وجاءنى من يفرج كربى فيعطينى مالا أو يفتح لى طريقا أول شىء أننى سأعقل هذا الجميل فأقول الله يستحق الشكر ثم ينزل هذا المعنى إلى قلب الإنسان فيهتز القلب إلى صانع هذا الجميل ثم تنفعل جوارحى لأترجم هذه العاطفة إلى عمل على جميل صنعه شيئا يرضيه ثم أحدث الناس عن جميله وكرمه فيسارعون إلى الالتجاء إليه فتتسع دائرة الحمد وتنزل النعم على الناس فيمرون بنفس ما حدث لى فتتسع دائرة الشكر والحمد .

والحمد لله تعطينا المزيد من نعم الله مصداقا لقوله تبارك وتعالى ( وإذ تأذن ؤبكم لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابى لشديد ( 7 ) ) ( سورة ابراهيم ) .

وهكذا نعرف أن الشكر على النعمة يعطينا مزيدا من النعمة فنشكر عليها فتعطينا المزيد وهكذا يظل الحمد دائما والتعمة دائمة فلو استعرض الإنسان حياته كلها فكل حركة فيها تقتضى الحمد وعندما ننام ويأخذ الله سبحانه وتعالى أرواحنا ثم يردها إلينا عندما نستيقظ فإن هذا يوجب الحمد فالله سبحانه وتعالى يقول :

( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتى لم تمت فى منامها فيمسك التى قضى عليها الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى إن فى ذلك لآيات لقوم يتفكرون ( 42 ) ( سورة الزمر ) .

وهكذا فإن مجرد استيقاظ الإنسان من النوم وأن الله سبحانه وتعالى رد علينا أرواحنا وهذا الرد يستوجب الحمد فإذا قام الإنسان من السرير فالله سبحانه وتعالى هو الذى يعطينا القدرة على الحركة ولولا عطاؤه ما استطعنا أن نقوم وهذا يستوجب الحمد فإذا تناول الإنسان إفطاره فالله هيأ لنا طعاما من فضله فهو الذى خلقه وهو الذى أنبته و الله الذى رزقنا به وهذا يستوجب الحمد فإذا نزلنا إلى الطريق يسر الله لنا ما ينقلنا إلى مقر أعمالنا وسخره لنا سواء كنا نملك سيارة أو نستخدم وسائل المواصلات فله الحمد وإذا تحدثنا مع الناس فالله سبحانه وتعالى هو الذى أعطى ألسنتنا القدرة على النطق ولو شاء لجعلها خرساء لا تنطق وهذا يستوجب الحمد فإذا ذهبنا إلى أعمالنا فالله يسر لنا عملا نرتزق منه لنأكل حلالا وهذا يستوجب الحمد إذن فى كل حركة حياة فى الدنيا من الإنسان تستوجب الحمد ولهذا لا بد أن يكون الإنسان حامدا دائما بل إن الإنسان يجب أن يحمد الله على أى مكروه أصابه لأنه قد يكون الشىء الذى يعتبره شرا هو عين الخير فالله تعالى يقول :

( يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن  فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله به خيرا كثيرا ( 19 ) ) ( سورة النساء ) .

إذن فالإنسان يحمد الله لأن قضاءه خير سواء أحببت القضاء أو كرهته فإنه خير للإنسان لأن الإنسان لا يعلم والله سبحانه وتعالى يعلم .

وهكذا من موجبات الحمد أن يقول الإنسان الحمد لله على كل ما يحدث للإنسان فى دنياه فالإنسان بذلك يرد الأمر إلى الله الذى خلقه فهو أعلم بما هو خير للإنسان .

فاتحة الكتاب تبدأ بالحمد لله الرحمن الرحيم لماذا قال الله سبحانه وتعالى رب العالمين ؟ نقول إن ( الحمد لله ) تعنى حمد الألوهية فكلمة الله تعنى المعبود بحق فالعبادة تكليف والتكليف يأتى من الله لعبيده فكأن الحمد أولا لله ثم يقتضى بعد ذلك أن يكون الحمد لربوبية الله على ايجاد الإنسان من عدم وإمداده من عدم لأن المتفضل بالنعم قد يكون محمودا عند كل الناس لكن التكليف يكون شاقا على بعض الناس ولو علم الناس قيمة التكليف فى الحياة لحمدوا الله أن كلفهم افعل ولا تفعل لأنه ضمن عدم تصادم حركة حياتهم فتمضى حركة الحياة متساندة منسجمة اذن فالنعمة الأولى هى أن المعبود أبلغنا منهج عبادته والنعمة الثانية أنه رب العالمين .

فى الحياة الدنيا يوجد المطيع والعاصى والمؤمن وغير المؤمن والذين يدخلون فى عطاء الألوهية هم المؤمنون أما عطاء الربوبية فيشمل الجميع ونحن نحمد الله على ( عطاء ألوهيته ) ونحمد الله على عطاء ربوبيته لأنه الذى خلق ولأنه رب العالمين فالكون كله لا يخرج عن حكمه فليطمئن الناس فى الدنيا أن النعم مستمرة لهم بعطاء ربوبية فلا الشمس تستطيع أن تغيب وتقول لن أشرق ولا النجوم تستطيع أن تصطدم ببعضها البعض فى الكون ولا الأرض تستطيع أن تمنع انبات الزرع ولا الغلاف الجوى يستطيع أن يبتعد عن الأرض فيختنق الناس جميعا .

فالله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده أنه رب كل ما فى الكون فلا تستطيع أى قوى تخدم الإنسان أن تمتنع عن خدمته لأن الله سبحانه وتعالى مسيطر على كونه وعلى كل ما خلق إنه رب العالمين وهذه توجب الحمد أن يهيىء الله سبحانه وتعالى للإنسان ما يخدمه بل جعله سيدا فى كونه ولذلك فإن الإنسان المؤمن لا يخاف الغد وكيف يخافه والله رب العالمين إذا لم يكن عنده طعام فهو واثق أن الله سيرزقه لأنه رب العالمين وإذا صادفته أزمة فقلبه مطمئن إلى أن الله سيفرج الأزمة ويزيل الكرب لأنه رب العالمين وإذا أصابته نعمة ذكر الله فشكره عليها لأنه رب العالمين الذى أنعم عليه .

فالحق سبحانه وتعالى يحمد على أنه رب العالمين لا شىء فى كونه يخرج عن مراده الفعلى أما عطاء الألوهية فجزاؤه فى الآخرة فالدنيا دار اختبار للإيمان والآخرة دار الجزاء ومن الناس من لا يعبد الله هؤلاء متساوون فى عطاء الربوبية مع المؤمنين فى الدنيا ولكن فى الآخرة يكون عطاء الألوهية للمؤمنين وحدهم فنعم الله لأصحاب الجنة وعطاءات الله لمن آمن وإقرأ قوله تبارك وتعالى ( قل من حرم زينة الله التى أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هى للذين آمنوا فى الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون ( 33 ) ) ( سورة الأعراف ) .

على أن الحمد لله ليس فى الدنيا فقط بل هو فى الدنيا والآخرة الله محمود دائما فى الدنيا بعطاء ربوبيته لكل خلقه وعطاء ألوهيته لمن آمن به وفى الآخرة بعطائه للمؤمنين من عباده وإقرأ قوله جل جلاله :

( وقالوا الحمد لله الذى صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبؤأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين ( 74 ) ) ( سورة الزمر )

وقوله تعالى ( دعوائهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين ( 10 ) سورة يونس

فإذا انتقلنا إلى قوله تعالى ( الرحمن الرحيم ) فمن موجبات الحمد أن الله سبحانه وتعالى رحمن رحيم يعطى نعمه فى الدنيا لكل عباده عطاء ربوبية للمؤمن والكافر وعطاء الربوبية لا ينقطع إلا عندما يموت الإنسان .

والله لا يحجب نعمه عن عبيده فى الدنيا ونعم الله لا تعد ولا تحصى ومع كل التقدم فى الآلات الحاسبة والعقول الإلكترونية

فإننا لم نجد أحدا ويتقدم ويقول أنا سأحصى نعم الله لأن موجبات  الإحصاء أن تكون قادرا عليه فالإنسان لا يقبل على عد شىء إلا أذا كان فى قدرته ولذلك إذا كان فى قدرته أن يحصيه .

ولكن ما دام ذلك خارج قدرة الإنسان نطاق وقدرة وطاقة الإنسان فالإنسان  لا يقبل عليه ولذلك لن يفبل أحد حتى يوم القيامة على أحصاء نعم الله تبارك وتعالى لأنه لا بمكن لأحد أن يحصيها .

و لا بد أن نلتفت إلى أن الكون كله يضيق بلسان الإنسان وإن العالم المقهور الذى يخدم البشر بحكم القهر والسخير يضيق حين يرى العاصين لأن المقهور مستقيم على منهج الله فهرا فحين يرى كل مقهور الإنسان الذى فىى خدمته الذى مر فى خمته عاصيا يضيق وإفرأ الحديث القدسى ليعرف الإنسان شيئا عن رحمة الله بعباده يقول الله عز وجل ( ما من يوم تطلع فيه شمسه إلا وتنادى السماء تقول لى يا رب إإذن لى أن أسقط كسفا على ابن ىدم فقد طمع خيرك ومنع شكرك وتقول البحار يا رب إإذن لى أن إغرق ابن آدم فقد طمع خيرك ومنع شكرك وتقول الجبال يا رب إذن لى  أن أطبق على ابن آدم فقد طمع خيرك ومنع شكرك فيقول الله تعالى دعوهم دعوهم لو خلفتموهم لرحمتموهم إنهم عبادى فإن تابوا الى فأنا حبيبهم وإن لم يتوبوا فأنا طبيبهم ) .

تلك تجليات صفة الرحمن وصفة الرحيم وكيف ضمنت لنا بقاء كل ما يخدم الإنسان فى هذا الكون مع معصية الإنسان إنها كلها تخدم الإنسان بعطاء الربوبية وتبقى خدمة الإنسان بتسخير الله للإنسان بها لأنه رحمن رحيم .

بعض الناس قد يتساءل هل تتكلم الأرض والسماء والبحار والجبال وغيرها من المخلوقات فى عالم الجماد والنبات والحيوان نقول نعم أن لها لغة لا نعرفها نحن وإنما يعرفها خالقها بدليل أنه منذ الخلق الأول أبلغنا الحق سبحانه وتعالى أنه يوجد لغة لكل المخلوقات وإقرأ قوله جل جلاله :

( ثم استوى إلى السماء وهى دخان فقال لها وللأرض آتيتا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين ( 11 ) ) ( سورة فصلت ) .

فالأرض والسماء فهمت عن الله وقالت له سبحانه وتعالى ( أتينا طائعين ) ألم يعلم الله سليمان منطق الطير ولغة النملة ؟ ألم تسبح الجبال مع داود ؟ فكل خلق الله له ادراكات مناسبة له بل له عواطف فعندما تكلم الله سبحانه وتعالى عن قوم فرعون قال ( كم تركوا من جنت وعيون ( 25 ) وزروع ومقام كريم ( 26 ) ونعمة كانوا فيها فاكهين ( 27 ) كذلك وأورثناها قوما آخرين ( 28 ) فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ( 29 ) ) ( سورة الدخان ) .

فالسماوات والأرض لهما انفعال انفعال يصل لمرحلة البكاء فهما لم يبكيا على فرعون وقومه ولكنهما تبكيان حزنا عندما يفارقهما الإنسان المؤمن المصلى المطبق لمنهج الله ولقد قال على بن أبى طالب رضى الله عنه ( إذا مات المؤمن بكى عليه موضعان موضع فى الأرض وموضع فى السماء أما الموضع فى الأرض فهو مكان مصلاه الذى أسعده وهو يصلى فيه وأما الموضع فى السماء فهو مصعد عمله الطيب ) .

 

   مَٰلِكِ يَوۡمِ ٱلدِّينِ (4)
إِيَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِيَّاكَ نَسۡتَعِينُ (5)             

إذا كانت كل نعم الله تستحق الحمد لله فإن ( مالك يوم الدين ) تستحق الحمد الكبير لأنه لم يوجد يوم للحساب لنجا الذى ملأ الدنيا شرورا دون أن يجازى على ما فعل ولكان الذى التزم بالتكليف والعبادة وحرم نفسه من متع دنيوية كثيرة إرضاء لله قد شقى فى الحياة الدنيا ولكن لأن الله تبارك وتعالى ( مالك يوم الدين ) فقد أعطى الإتزان للوجود كله هذه الملكية ليوم الدين التى حمت الضعيف والمظلوم وأبقت الحق فى كون الله إن الذى منع الدنيا أن تتحول إلى غابة يفتك فيها القوى بالضعيف والظالم بالمظلوم أن توجد آخرة وحسابا وأن الله سبحانه وتعالى هو الذى سيحاسب خلقه .

والإنسان المستقيم استقامته تنفع غيره لأنه يخشى الله ويعطى كل ذى حق حقه ويعفو ويسامح فكل من حول الإنسان قد استفاد من خلقه الكريم ومن وقوفه مع الحق والعدل .

أما الإنسان العاصى فيشقى به المجتمع لأنه لا أحد يسلم من شره ولا أحد إلا يصيبه ظلمه ولذلك فإن ( مالك يوم الدين ) هى الميزان فالإنسان الذى يفسد فى الأرض تنتظره الآخرة لن يفلت مهما كانت قوته ونفوذه فيطمئن الإنسان اطمئنانا كاملا إلى أن عدل الله سينال كل ظالم .

على أن ( مالك يوم الدين ) لها قراءتان و ( مالك يوم الدين ) والقراءتان صحيحتان والله تبارك وتعالى وصف نفسه فى القرآن الكريم بأنه ( مالك يوم الدين ) ومالك الشىء هو المتصرف فيه وحده ليس هناك دخل لأى فرد آخر / أنا أملك عباءتى

وأملك متاعى وأملك منزلى وأنا المتصرف فأمى ذلك كله أحكم فيه بما أراه .

فمالك يوم الدين معناها أن الله سبحانه وتعالى سيصرف أمور العباد فى ذلك اليوم بدون أسباب وأن كل شىء سيأتى من الله مباشرة دون أن يستطيع أحد أن يتدخل ولو ظاهرا .

ففى الدنيا يعطى الله الملك ظاهرا لبعض الناس ولكن فى يوم القيامة ليس هناك ظاهر فالأمر مباشر من الله سبحانه وتعالى ولذلك يقول الله فى وصف يوم الدين : ( كلا بل تكذبون بالدين ( 9 ) ( سورة الانفطار ) .

فكأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان فى الدنيا لتمضى بها الحياة ولكن فى الآخرة لا توجد أسباب الملك فى ظاهر الدنيا من الله يهبه لمن يشاء وإقرأ قول الله تبارك وتعالى :

( قل اللهم مالك الملك تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شىء قدير ( 26 ) ) ( سورة آل عمران ) .

ولعل قوله تعالى ( تنزع ) تلفتنا إلى أن أحدا فى الدنيا لا يريد أن يترك الملك ولكن الملك يجب أن ينتزع منه انتزاعا رغما عن إرادته والله هو الذى ينزع الملك ممن يشاء .

ويوجد سؤال هل الملك فى الدنيا والآخرة ليس لله ؟ نقول الأمر فى كل وقت لله ولكن الله تبارك وتعالى استخلف بعض خلفه أو مكنهم من الملك فى الأرض ولذلك نجد فى القرآن الكريم  قوله تعالى :

( ألم تر إلى الذى حاج إبراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربى الذى يحيى ويميت قال أنا أحى وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظالمين ( 258 ) ) سورة البقرة

والذى حاج ابراهيم فى ربه كافر منكر للألوهية ومع ذلك فإنه لم يأخذ الملك بذاته بل الله جل جلاله هو الذى آتاه الملك فالله تبارك وتعالى هو الذى استخلف بعض خلقه ومكنهم من ملك فى الأرض ظاهريا ومعنى ذلك أنه ملك يملك ولكنه نابع من أمر الله ولو كان نابعا من ذاتية من يملك لبقى له ولم ينزع منه والملك الظاهر يمتحن فيه العباد فيحاسبهم الله يوم القيامة كيف تصرفوا ؟ وماذا فعلوا ؟ ويمتحن فيه الناس هل سكنوا على الحاكم الظالم ؟ وهل استحبوا المعصية ؟

أم أنهم وقفوا مع الحق ضد الظلم ؟ والله سبحانه وتعالى لا يمتحن الناس ليعلم المصلح من المفسد ولكنه يمتحنهم ليكونوا شهداء على أنفسهم حتى لايأتى واحد منهم يوم القيامة ويقول يا رب لو أنك اعطيتنى الملك لاتبعت طريق الحق وطبقت منهجك حيث يوجد سؤال إذا كان الله سبحانه وتعالى يعلم كل شىء فلماذا الامتحان ؟ نقول إننا أن نضرب مثلا بقرب ذلك إلى الأذهان ولله المثل الأعلى نجد أن الجامعات فى كل أنحاء الدنيا تقيم الامتحانات لطلابها فهل أساتذة الجامعة الذين علموا هؤلاء الطلاب يجهلون ما يعرفه الطالب ويريدون أن يحصلوا منه على العلم ؟ طبعا لا ولكن ذلك يحدث حتى إذا رسب الطالب فى الامتحان وجاء يجادل واجهوه بإجابته فيسكت ولو لم يعقد الامتحان لادعى كل طالب أنه يستحق مرتبة الشرف .

إذا قال الحق تبارك وتعالى ( مالك يوم الدين ) أى الذى يملك هذا اليوم وحده يتصرف فيه كما يشاء وإذا قيل / ملك يوم الدين

فتصرفه أعلى على المالكين لأن المالك لا يتصرف إلا فى ملكه ولكن الملك يتصرف فى ملكه وملك غيره فيستطيع أن يصدر قوانين بمصادرة أو تأميم ما يملكه غيره .

الذين قالوا ( مالك يوم الدين ) أثبتوا لله سبحانه وتعالى أنه مالك هذا اليوم يتصرف فيه كما يشاء دون تدخل من أحد ولو ظاهرا والذين يقرأون ملك يقولون إن الله سبحانه وتعالى فى ذلك اليوم يقضى فى أمر خلقه حتى الذين ملكهم فى الدنيا ظاهرا ونحن نقول عندما يأتى يوم القيامة لا مالك ولا ملك إلا الله .

الله تبارك وتعالى يريد أن يطمئن عباده إنهم إذا كانوا قد ابتلوا بمالك أو ملك يطغى عليهم فيوم القيامة لا مالك ولا ملك إلا الله جل جلاله فعندما نقول ( مالك أو ملك يوم الدين ) يوجد يوم ويوجد الدين فاليوم فى الدنيا من شروق الشمس فى يوم إلى شروق الشمس فى يوم آخر هذا ما يسمى فلكيا يوما واليوم فى معناه ظرف زمان تقع فيه الأحداث والمفسرون يقولون

( مالك يوم الدين ) أى مالك أمور الدين لأن ظرف الزمان لا يملك نقول إن هذا بمقاييس ملكية البشر فنحن لا نملك الزمن فالماضى لا نستطيع أن نعيده والمستقبل لا نستطيع أن نأتى به ولكن الله تبارك وتعالى هو خالق الزمان والله جل جلاله لا يحده زمان ولا مكان كذلك قوله تعالى ( مالك يوم الدين ) لا يحده زمان ولا مكان وإقرأ قوله سبحانه :

( ويستعجلونك بالعذاب ولن يخلف الله وعده وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون 0( 47 ) ) ( سورة الحج ) .

وقوله تعالى ( تعرج الملائكة والروح إليه فى يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ( 4 ) ( سورة المعارج ) .

وإذا تأملنا هاتين الآيتين نعرف معنى اليوم عند الله تبارك وتعالى ذلك أن الله جل جلاله هو خالق الزمن ولذلك فإنه يستطيع أن يخلق يوما مقداره ساعة ويوما كأيام الدنيا مقداره ( 24 س ) ويوما مقداره ( 1000 سنة ) ويوما مقداره

( 50000 سنة ) ويوما مقداره مليون سنة فذلك خاضع لمشيئة الله .

ويوم الدين موجود فى علم الله سبحانه وتعالى بأحداثه كلها بجنته وناره وكل الخلق الذين سيحاسبون فيه وعندما يريد أن يكون ذلك اليوم ويخرج من علمه جل جلاله إلى علم خلقه سواء كانوا من الملائكة أو من البشر أو الجان يقول كن فالله وحده هو خالق هذا اليوم وهو وحده الذى يحدد كل أبعاده واليوم نحن نحدده ظاهرا بأنه ( 24 س ) ونحدده بأنه الليل والنهار ولكن الحقيقة أن الليل والنهار موجودان دائما على الأرض فعندما تتحرك الأرض كل حركة هى نهاية نهار فى منطقة وبداية نهار فى منطقة أخرى وبداية ليل فى منطقة ونهاية ليل فى منطقة أخرى ففى كل لحظة ينتهى يوم ويبدأ يوم وهكذا فإن الكرة الأرضية لو أخذتها بنظرة شاملة لا ينتهى عليها نهار أبدا ولا ينتهى عنها ليل أبدا فاليوم نسبى بالنسبة لكل بقعة فى الأرض ولكنه فى الحقيقة دائم الوجود على كل الكرة الأرضية .

والله سبحانه وتعالى يريد أن يطمئن عباده أنهم إذا أصابهم ظلم فى الدنيا فإنه يوجد يوما لا ظلم فيه وهذا اليوم الأمر فيه لله وحده بدون أسباب فكل إنسان لو لم يدركه العدل والقصاص فى الدنيا فإن الآخرة تنتظره والذى اتبع منهج الله وقيد حركته فى الحياة يخبره الله سبحانه وتعالى أنه يوجد يوما سيأخذ فيه أجره وعظمة الآخرة أنها تعطى الإنسان المؤمن الجنة نعيم لا يفوت الإنسان المؤمن ولا تفوته الجنة .

ولقد دخل أحد الأشخاص على رجل من الصالحين وقال له أريد أن أعرف أأنا من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة ؟ فقال له الرجل الصالح إن الله أرحم بعباده فلم يجعل موازينهم فى أيدى أمثالهم فميزان كل إنسان فى نفسه لماذا ؟ لأن الإنسان يستطيع أن يغش الناس ولكن الإنسان لا يغش نفسه فميزان الإنسان فى يديه يستطيع أن يعرف الإنسان أنه من أهل الدنيا أم من أهل الآخرة .

قال الرجل كيف ذلك ؟ فرد العبد الصالح إذا دخل عليك من يعطيك مالا ودخل عليك من يأخذ منك صدقة فبأيهما تفرح ؟ فسكت الرجل فقال العبد الصالح إذا كنت تفرح بمن يعطيك مالا فأنت من أهل الدنيا وإذا كنت تفرح بمن يأخذ منك صدقة فأنت من أهل الآخرة فإن الإنسان يفرح بمن يقدم له ما يحبه فالذى يعطى الإنسان مالا يعطيه الدنيا والذى يأخذ من الإنسان صدقة يعطيه الآخرة فإن كان الإنسان من أهل الآخرة فافرح بمن يأخذ منك صدقة أكثر من فرحك بمن يعطيك مالا .

ولذلك كان بعض الصالحين إذا دخل عليه من يريد صدقة يفول مرحبا بمن جاء يحمل حسناتى إلى الآخرة بغير أجر ويستقبله بالفرحة والترحاب .

قول الحق سبحانه وتعالى ( مالك يوم الدين ) هى قضية ضخمة من قضايا العقائد لأنها تعطينا أن البداية من الله والنهاية إلى الله جل جلاله وبما أننا جميعا سنلقى الله فلا بد أن نعمل لهذا اليوم ولذلك فإن المؤمن لا يفعل شيئا فى حياته إلا وفى باله الله وأنه سيحاسبه يوم القيامة ولكن غير المؤمن يفعل ما يفعل وليس فى باله الله وعن هؤلاء يقول الحق سبحانه :

( والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الطمئان ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب ( 39 ) ) ( سورة النور ) .

وهكذا من يفعل شيئا وليس فى باله الله سيفاجأ يوم القيامة بأن الله تبارك وتعالى الذى لم يكن فى باله موجود وأنه جل جلاله هو الذى سيحاسبه .

وقوله تعالى ( مالك يوم الدين ) هى أساس الدين لأن الذى لا يؤمن بالآخرة يفعل ما يشاء فما دام يعتقد أنه لا يوجد آخرة ولا يوجد حساب فمم يخاف ؟ ومن أجل من يفيد حركته فى الحياة .

إن الدين كله بكل طاعاته وكل منهجه قائم على أنه يوجد حسابا فى الآخرة وأنه يوجد يوما نقف فيه جميعا أمام الله سبحانه وتعالى ليحاسب المخطىء ويثيب الطائع هذا هو الحكم فى كل تصرفاتنا الإيمانية فلو لم يوجد يوم نحاسب فيه فلماذا نصلى ؟ ولماذا نصوم ؟ ولماذا نتصدق ؟

إن كل حركة من حركات منهج السماء قلئمة على أساس ذلك اليوم الذى لن يفلت منه أحد والذى يجب علينا جميعا أن نستعد له إن الله سبحانه وتعالى سمى هذا اليوم بالنسبة للمؤمنين ( يوم الفوز العظيم ) والذى يجعلنا نتحمل كل ما نكره ونجاهد فى سبيل الله لنستشهد وننفق أموالنا لنعين الفقراء والمساكين كل هذا أساسه أنه يوجد يوما سنقف فيه بين يدى الله والله تبارك ونعالى سماه يوم الدين لأنه اليوم الذى سيحاسب فيه كل إنسان على دينه عمل به أم ضيعه فمن آمن واتبع الدين سيكافأ بالخلود فى الجنة ومن أنكر الدين وأنكر منهج الله سيجازى بالخلود فى النار .

ومن عدل الله سبحانه وتعالى أنه يوجد يوما للحساب لأن بعض الناس الذين ظلموا وبغوا فى الأرض ربما يفلتون من عقاب الدنيا هل هؤلاء الذين أفلتوا فى الدنيا من العقاب هل يفلتون من عدل الله ؟ أبدا لم يفلتوا بل إنهم انتقلوا من عقاب محدود إلى عقاب خالد وأفلتوا من العقاب بقدرة البشر فى الدنيا إلى عقاب بقدرة الله تبارك وتعالى فى الآخرة ولذلك لا بد من وجود يوم يعيد الميزان فيعاقب فيه كل من أفسد فى الأرض وأفلت من العقاب بل إن الله سبحانه وتعالى يجعل إنسانا يفلت من عقاب الدنيا فلا تعتقد أن ذلك خير له بل  إنه شر له لأنه أفلت من عقاب محدود إلى عقاب أبدى .

والحمد الكبير لله بأنه ( مالك بوم الدين ) وهو وحده الذى سيقضى بين خلقه فالله سبحانه وتعالى يعامل خلقه جميعا معاملة متساوية وأساس التقوى هو يوم الدين .

وقبل أن نتكلم عن قول الحق تبارك وتعالى ( إياك نعبد وإياك نستعين ) لا بد أن نتحدث عن قضية هامة فيوجد نوعان من الرؤية الرؤية العينية أى بالعين والرؤية الإيمانية أى بالقلب وكلاهما مختلف عن الآخر رؤية العين هى أن يكون الشىء أمام الإنسان يراه بعينيه وهذه ليس فيها قضية إيمان فلا تقول أننى أؤمن أننى اراك أمامى لأنك ترى الإنسان فعلا فما دمت ترى الإنسان فهذا يقين ولكن الرؤية الإيمانية هى أن تؤمن كأنك ترى ما هو غيب أمام الإنسان المؤمن وتكون هذه الرؤية أكثر يقينا من رؤية العين لأنها رؤية إيمان ورؤية بصيرة وهذه قضية هامة جدا .

وقد روى عمر بن الخطاب قال :

بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد حتى جلس إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه قال يا محمد أخبرنى عن الإسلام ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وتقيم الصلاة وتؤتى الزكاة وتصوم رمضان وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا قال صدقت فعجبنا له يسأله ويصدقه .

قال فأخبرنى عن الإيمان .

قال أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الأخر وتؤمن بالقدر خيره وشره .

قال صدقت قال فأخبرنى عن الإحسان ؟

قال تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك .

قال فأخبرنى عن الساعة ؟

قال ما المسئول عنها بأعلم من السائل .

قال فأخبرنى عن إماراتها ؟

قال أن تلد الأمة ربتها وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون فى البنيان .

قال ثم انطلق فلبث مليا ثم قال لى النبى صلى الله عليه وسلم : يا عمر أتدرى من السائل ؟

قلت الله ورسوله أعلم

قال فإنه جبريل آتاكم لبعلمكم دينكم

قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أن تعبد الله كأنك تراه فإذا لم تكن تراه فإنه يراك ) هو بيان للرؤية الإيمانية فى النفس المؤمنة فالإنسان حينما يؤمن لا بد أن يأخذ كل قضاياه برؤية إيمانية حتى إذا قرأ آية عن الجنة فكأنه يرى أهل الجنة وهم ينعمون وإذا قرأ آية عن أهل النار اقشعر بدنه وكأنه يرى أهل النار وهم يعذبون .

ذات يوم شاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد صحابته وكان اسمه ( الحارث ) فقال له :

كيف أصبحت يا حارث ؟

فقال أصبحت مؤمنا حقا .

قال الرسول فانظر إلى ما تقول فإن لكل قول حقيقة فما حقيقة إيمانك ؟

قال الحارث عزفت نفسى عن الدنيا فأسهرت ليلى وأظمأت نهارى وكأنى أنظر عرش ربى بارزا وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها . ( يتصايحون فيها ) .

قال النبى يا حارث عرفت الزم

ولذلك نجد أن الحق سبحانه وتعالى وهو يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم يقول :

( ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل ( 1 ) ) ( سورة الفيل ) .

ياخذ بعض المستشرقين هذه الآية فى محاولة للطعن فى القرآن الكريم فقوله تعالى ( ألم تر ) ورسول الله صلى الله عليه وسلم ولد فى عام الفيل إنه لم ير لأنه كان طفلا عمره أيام أو شهورا لو قال الله سبحانه وتعالى ألم تعلم لذلك علم من غيره فالعلم يحصل عليه الإنسان لإنسان آخر أو  يعطيه من علمه أى يعلمك غيرك من البشر ولكن الله سبحانه وتعالى قال

( ألم تر ) نقول إن هذه قضية من قضايا الإيمان فما يقوله الله سبحانه وتعالى هو كلام متعبد بتلاوته فالإنسان يرى بايمانيه ما يعجز عين الإنسان هذه هى الرؤية الإيمانية وهى اصدق من رؤية العين لأن العين قد تخضع صاحبها ولكن القلب المؤمن لا يخدع صاحبه أبدا .

على نه يوجد ما يسمونه ضمير الغائب إذا قلت زيد حضر فهو رؤية صادقة بالنسبة للإنسان المؤمن ولكن إذا قلت قابلت زيدا فكأن زيدا غائب عن الإنسان ساعة قول هذه الجملة قابلته ولكنه ليس موجودا مع الإنسان الغائب هو من ليس موجودا أو لا  والحاضر هو الموجود الغائب والحاضر هو الموجود وقت الحديث والمتكلم هو الذى يتحدث  وقضايا العقيدة كلها ليس فيها مشاهدة ولكن الإيمان بما هو غيب عنا يعطينا الرؤية الإيمانية التى هى أقوى من رؤية البصر .

فالله سبحانه وتعالى حين يقول ( الحمد لله رب العلمين ) الله غيب ورب العامين غيب والرحمن الرحيم غيب ومالك يوم الدين غيب وكان السياق اللغوى يقتضى أن يقال إياه نعبد ولكن الله سبحانه وتعالى غير السياق ونقله من الغائب إلى الحاضر وقال

( إياك نعبد ) فانتقل الغيب إلى السياق ونقله من الغائب إلى الحاضر وقال ( إياك نعبد ) فانتقل الغيب إلى حضور المخاطب فلم يقل إياه نعبد ولكنه قال ( إياك نعبد ) فأصبحت رؤية يقين إيمانى .

فالإنسان فى حضرة الله سبحانه وتعالى الذى غمر الناس بالنعم تراها وتحيط بالإنسان لأنه رب العالمين وجعل االإنسان تطمئن إلى قضائه لأنه ( الرحمن الرحيم ) أى أن ربوبيته جل جلاله ليست ربوبية جبروت بل هى ربوبية الرحمن الرحيم فإذا لم تحمده وتؤمن به بفضل نعمه التى تحسها وتعيش فيها فاحذر من مخالفة منهجه لأنه ( مالك يوم الدين ) .

حين يستحضر الحق سبحانه وتعالى ذاته بكل هذه الصفات التى فيها فضائل الألوهية ونعم الربوبية والرحمة التى تمحو الذنوب والرهبة من لقائه يوم القيامة تكون قد انتقلت من صفات الغيب إلى محضر الشهود استحضرت جلال الألوهية لله وفيوضات رحمته ونعمه التى لا تحد وقيوميته يوم القيامة .

عندما نقرأ قوله تعالى ( إياك نعبد ) فالعبارة تفيد الخصوصية بمعنى أننى إذا قلت لإنسان أننى سأقابلك قد أقابله وحده وقد أقابله مع جمغ من الناس ولكن إذا قلت أياك ساقابل فمعنى ذلك أن المقابلة ستكون خاصة .

الحق سبحانه وتعالى حين قال ( إياك نعبد ) قصر العبادة على ذاته الكريمة لأنه لو قال نعبدك وحدك فهى لا تؤدى نفس المعنى لأن الإنسان قد يقول نعبدك وحدك ومعك كذا وكذا ولكن إذا قال الإنسان ( إياك نعبد ) وقدمت إياك تكون قد حسمت الأمر بأن العبادة لله وحده فلا يجوز العطف عليها فالعبادة خضوع لله سبحانه ونعالى بمنهجه افعل ولا تفعل ولذلك جعل الصلاة أساس العبادة والسجود هو منتهى الخضوع لله لأن الإنسان يأتى بوجهه الذى هو أكرم شىء فى الإنسان ويضعه على  الأرض عند موضع القدم فيكون هذا هو منتهى الخضوع لله ويتم هذا أمام الناس جميعا فى الصلاة لإعلان خضوع الإنسان المؤمن لله أمام البشر جميعا .

ويستوى فى العبودية الغنى والفقير والكبير والصغير حتى يطرد كل منا الكبر والاستعلاء من قلبه أمام الناس جميعا فيساوى الحق جل جلاله بين عباده فى الخضوع له وفى إعلان هذا الخضوع .

وقول الحق سبحانه وتعالى ( إياك نعبد ) تنفى العبودية لغير الله أى لا نعبد غير الله ولا يعطف عليها أبدا إذن إياك نعبد أعطت تخصيص العبادة لله وحده لا إله غيره ولا معبود سواه وعلينا أن نلتفت إلى قول الحق تبارك وتعالى :

( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون ( 22 ) ) ( سورة الأنبياء )     

وهكذا فعندما نقول ( الحمد لله ) فإننا نستحضر موجبات الحمد وهى نعم الله ظاهرة وباطنة وحين نقول ( رب العالمين ) نستحضر نعم الربوبية فى خلقه وإخضاع كونه وحين نستحضر ( الرحمن الرحيم ) فإننا نستحضر الرحمة والمغفرة ومقابلة الإساءة بالإحسان وفتح باب التوبة وحين نستحضر ( مالك يوم الدين ) نستحضر يوم الحساب وكيف أن الله تبارك وتعالى سيجازى الإنسان على أعماله فإذا استحضرنا هذا كله نقول ( إياك نعبد ) أى أننا نعبد الله وحده إذن عرفنا المطلوب منا وهو العبادة .

ونتوقف لنتحدث عما يطلقون عليه فى اللغة ( العلة والمعلول ) إذا أراد ابنك أن ينجح فى الامتحان فإنه لا بد له أن يذاكر وعلة المذاكرة هى النجاح فكأن النجاح ولد فى ذهنى أولا بكل ما يخلقه لى من ميزات ومستقبل مضمون وغير ذلك مما يريده الإنسان ويسعى إليه .

فالدافع قبل الواقع أى أن الإنسان استحضر النجاح فى ذهنه ثم بعد ذلك ذاكر ليجعل النجاح حقيقة واقعة والإنسان إذا أراد أن يسافر إلى مكان ما فالسيارة سبب تحقق للإنسان ما يريد وقطع الطريق سبب آخر ولكن الدافع الذى جعل الإنسان ينزل من بيته ويركب السيارة ويقطع الطريق هو أنه يريد أن يسافر إلى الإسكندرية فالدافع هو الوصول إلى الإسكندرية .

والله سبحانه وتعالى خلقنا فى الحياة لنعبده مصداقا لقوله تبارك وتعالى ( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ( 56 ) )

( سورة الذاريات ) .

فعلة الخلق هى العبادة ولقد تم الخلق لتتحقق العبادة وتصبح واقعا ولكن ( العلة والمعلول ) لا تنطبق على أفعال الله سبحانه وتعالى فلا توجد علة تعود على الله جل جلاله بالفائدة لأن الله تبارك وتعالى غنى عن العالمين ولكن العلة تعود على الخلق بالفائدة فالله سبحانه وتعالى خلق الإنسان ليعبده ولكن علة الخلق ليس لأن هذه العبادة ستزيد شيئا فى ملكه وإنما عبادة الإنسان لله تعود على الإنسان بالخير فى الدنيا والآخرة .

إن أفعال الله لا تعلل والمأمور بالعبادة هو الذى سينتفع بها ولكن هل العبادة هى الجلوس فى المساجد والتسبيح أم أنها منهج يشمل الحياة كلها فى البيت وفى العمل وفى السعى فى الأرض ولو أراد الله سبحانه وتعالى من عباده الصلاة والتسبيح فقط لما خلقهم مختارين بل خلقهم مقهورين لعبادته ككل ما خلق ما عدا الإنس والجن والله تبارك ونعالى له صفة القهر من هنا فإنه يستطيع أن يجعل من يشاء مفهورا على عيادته مصداقا لقوله جل جلاله :

( لعلك باخع نفسك ألا يكونوا مؤمنبن ( 3 ) إن نشاء ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين ( 4 ) )

( سورة الشعراء ) .

فلو أراد الله أن يخضعنا لمنهجه فهرا لا يستطيع أحد أن يشذ عن طاعته وقد أعطانا الله الدليل على ذلك بأن فى أجسادنا وفى أحداث الدنيا ما نحن مقهورون عليه فالجسد مقهور لله فى أشياء كثيرة القلب ينبض وبتوقف بأمر الله دون إرادة من البشر

والمعدة تهضم الطعام والإنسان لا يدرى عنها شيئا والدورة الدموية فى   أجساد البشر لا إرادة للبشر فيها وأشياء كثيرة فى الجسد البشرى كلها مقهورة لله سبحانه وتعالى وليس لإرادة الإنسان دخل فى عملها وما يقع على الإنسان فى الحياة الدنيا من أحداث الإنسان مقهور فيها لا يستطيع الإنسان منعه من الحدوث فلا يستطيع أن يمنع سيارة بأن تصطدم بإنسان ما ولا طائرة أن تحترق بالإنسان ولا كل ما يقع على من أقدار الله فى الدنيا .

فمنطقة الاختيار فى حياة الإنسان محددة فلا يستطيع الإنسان التحكم  فى يوم مولده ولا فيمن هو أبى ومن هى أمى ولا فى شكل الإنسان هل هو طويل أم قصير ؟ جميل أم قبيح ؟ أم غير ذلك فمنطقة الاختيار فى الحياة هى المنهج أن أفعل أو لا أفعل الله سبحانه وتعالى له من كل خلقه عبادة القهر ولكنه يريد من الإنس والجن عبادة المحبوبية ولذلك خلق الإنسان وله اختيار فى أن نأتيه أو لا نأتيه فى أن تطيعه أو تعصاه فى أن يؤمن أو لا يؤمن .

فإذا كان الإنسان يحب الله فالإنسان يأتيه عن اختيار تتنازل عما يغضبه حبا فيه ونفعل ما يطلبه حبا فيه وليس قهرا فإذا تخلى الإنسان عن اختياره إلى مرادات الله فى منهجه يكون الإنسان قد حقق عبادة المحبوبية لله تبارك وتعالى ويكون الإنسان قد أصبح من عباد الله وليس من عبيد الله فكلنا عبيد لله سبحانه وتعالى والعبيد متساوون فيما يقهرون عليه ولكن العباد الذين سيتنازلون عن منطقة الأختيار لمراد الله فى التكليف فإن الحق جل جلاله يفرق فى الفرأن الكريم بين العباد والعبيد يقول تعالى / وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الله إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون     

( 186 ) ( سورة البقرة ) .

ويقول سبحانه وتعالى ( وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما ( 63 )  والذين يبيتون لربهم سجدا وقياما ( 64 ) والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراما ( 65 ) )

( سورة الفرقان ) .

وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى أعطى أوصاف المؤمنين وسماهم عبادا ولكن عندما يتحدث عن البشر جميعا يقول عبيد مصداقا لقوله تعالى ( ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام  للعبيد ( 181 ) ( سورة آل عمران ) .

ولكن قد يقول قائل إن الله تبارك وتعالى يقول فى كتابه العزيز

( ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أانتم أضللتم عبادى هؤلاء أم هم ضلوا السبيل ( 17 ) ) ( سورة الفرقان ) .

 الحديث عن العاصين والضالين ولكن الله سبحانه وتعالى قال عنهم عباد نقول إن هذا فى الأخرة وفى الأخرة كلنا عباد لأننا مقهورون لطاعة الله الواحد المعبود تبارك وتعالى لأن الاختيار البشرى ينتهى ساعة الاحتضار ونصبح جميعا عبادا لله

والله قد أعطى الإنسان اختياره مقهورين على طاعته فى الحياة الدنيا فى العبودية فلم يقهره فى شىء ولا يلزم غير المؤمن به بأى تكليف بل إن المؤمن هو الذى يلزم نفسه بالتكليف وبمنهج الله فيدخل فى عقد إيمانى مع الله تبارك وتعالى ولذلك نجد أن الله جل جلاله لا يخاطب الناس جميعا فى التكليف وإنما يخاطب الذين آمنوا فقط فيقول

( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون ( 182 ) ) ( سورة البقرة ) .

ويقول سبحانه ( يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين ( 153 ) ) ( سورة البقرة ) .

أى أن الله جل جلاله لا يكلف إلا المؤمن الذى يدخل فى عقد إيمانى مع الله وسيد المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم عندما نضعه فى معيار العبودية تكون القمة فهو صلى الله عليه وسلم الذى حقق العبودية المرادة لله من خلق الله كما يحبها الله .

فالذى يقول غاية الخلق كله محمد عليه الصلاة والسلام نقول إن هذا صحيح لأنه صلى الله عليه وسلم حقق العبودية المثلى المطلوبة من الله تبارك وتعالى والتى هى علة الخلق وهكذا نعرف المقامات العالية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عند خالقه .

والله تبارك وتعالى قرن العبادة له وحده بالاستعانة به سبحانه فقال جل جلاله ( إياك نعبد وإياك نستعين ) أى لا نعبد سواك ولا نستعين إلا بك والاستعانة بالله سبحانه وتعالى تخرج الإنسان من ذل الدنيا فالإنسان حين يستعين بغير الله فإنه يستعين ببشر مهما بلغ نفوذه وقوته فكلها فى حدود بشريته .

ولأن الإنسان يعيش فى عالم أغيار فإن القوى قد يصبح ضعيفا وصاحب النفوذ يمكن أن يكون فى لحظة واحدة طريقا شريدا لا نفوذ له ولو لم يحدث هذا فقد يموت ذلك الذى يستعين به الإنسان من البشر فلا يجد أحدا يعينه .

ويريد الله تبارك وتعالى أن يحرر المؤمن من ذل الدنيا فيطلب منه أن يستعين بالحى الذى لا يموت وبالقوى الذى لا يضعف وبالقاهر الذى لا يخرج عن أمره  أحد وإذا تمت الاستعانة بالله سبحانه وتعالى كان الله جل جلاله بجانب الإنسان المؤمن وهو وحده الذى يستطيع أن يحول ضعف الإنسان إلى قوة وذلك إلى عز والمؤمن دائما يواجه قوى أكبر منه ذلك أن الذين يحاربون منهج الله يكونون من الأقوياء من ذوى النفوذ الذين يحبون أن يستعبدوا غيرهم فالمؤمن سيدخل معهم فى صراع ولذلك فإن الحق يحض عباده المؤمنين أنه معهم فى الصراع بين الحق والباطل وقوله تعالى ( وإياك نستعين ) مثل إياك نعبد أى نستعين بك وحدك وهى دستور الحركة فى الحياة لأن استعان معناها طلب المعونة أى أن الإنسان استنفد أسبابه ولكنها خذلته حيئذ لا بد أن يتذكر أن له ربا لا يعبد سواه لن يتخلى عنه بل يستعين به وحين تتخلى الأسباب فيوجد رب الأسباب وهو موجود دائما لا يغفل عن شىء ولا تفوته همسة فى الكون ولذلك فإن المؤمن يتجه دائما إلى السماء والله سبحانه وتعالى يكون معه .

 

 

 ٱهۡدِنَا
ٱلصِّرَٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِيمَ (6) صِرَٰطَ ٱلَّذِينَ أَنۡعَمۡتَ
عَلَيۡهِمۡ غَيۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَيۡهِمۡ
وَلَا ٱلضَّآلِّينَ (7)

بعد أن آمن الإنسان بالله سبحانه وتعالى إلها وربا واستحضر الإنسان عطاء الألوهية ونعم الربوبية وفيوضات رحمة الله على خلقه وأعلن الإنسان أنه لا إله إلا الله وقوله ( إياك نعبد ) أى أن العبادة لله تبارك وتعالى لا نشرك به شيئا ولا نعبد إلا إياه وأعلن الإنسان أنه سيستعين بالله وحده بقوله ( إياك نستعين ) فإن الإنسان قد أصبح من عباد الله ويعلمه الله سبحانه وتعالى الدعاء الذى يتمناه كل مؤمن وما دام الإنسان من عباد الله فإن الله جل جلاله سيستجيب للإنسان المؤمن مصداقا لقوله سبحانه / وإذا سألك عبادى عنى فإنى قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لى وليؤمنوا بى لعلهم يرشدون ( 186 )

( سورة البقرة ) .

والمؤمن لا يطلب الدنيا أبدا لماذا ؟ لأن الحياة الحقيقية للإنسان فى الآخرة فيها الحياة الأبدية والنعيم الذى لا يفارق الإنسان المؤمن ولا تفارقه النعم فالمؤمن لا يطلب أن يرزقه الله مالا كثيرا ولا أن يمتلك عمارة لأنه يعلم أن كل هذا وقتى وزائل ولكنه يطلب ما ينجيه من النار ويوصله إلى الجنة .

ومن رحمة الله تبارك وتعالى أن علم الإنسان ما يطلب وهذا يستوجب الحمد لله وأول ما يطلبه المؤمن هو الهداية والصراط المستقيم ( إهدنا الصراط المستقيم ) والهداية نوعان :

1 ) هداية دلالة : هى للناس جميعا    2 ) هداية معونة : هى للمؤمنين فقط المتبعين لمنهج الله

والله سبحانه وتعالى هدى كل عباده هداية دلالة أى دلهم على طريق الخير وبينه لهم فمن أراد أن يتبع طريق الخير اتبعه ومن أراد ألا يتبعه تركه الله لما أراد .

هذه الهداية العامة هى أساس البلاغ عن الله فقد بين لنا الله تبارك الله فى منهجه بافعل ولا تفعل ما يرضيه وما يغضبه وأوضح لنا الطريق الذى نتبعه لنهتدى والطريق الذى لو سلكناه حق علينا غضب الله وسخطه ولكن هل كل من بين له الله سبحانه وتعالى طريق الهداية اهتدى ؟ نقول لا وإقرأ قوله جل جلاله

( وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة عذاب الهون بما كانوا يكسبون ( 17 ) ( سورة فصلت )

فيوجد من لا يأخذ طريق الهداية بالاختيار الذى أعطاه الله له فلو أن الله سبحانه وتعالى أرادنا جميعا مهديين ما استطاع واحد من خلقه أن يخرج على مشيئته ولكنه جل جلاله خلقنا مختارين لنأتيه عن حب ورغبة بدلا من أن يقهرنا على الطاعة ما الذى يحدث للذين اتبعوا طريق الهداية والذين لم يتبعوه وخالفوا مراد الله الشرعى فى كونه ؟

الذين اتبعوا طريق الهداية يعينهم الله سبحانه وتعالى عليه ويحببهم فى الإيمان والتقوى ويحببهم فى طاعته وإقرأ قوله تبارك وتعالى ( والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم ( 17 ) ) ( سورة محمد ) .

أى أن كل ما يتخذ طريق الهداية يعينه الله عليه ويزيده تقوى وحبا فى الدين أما الذين إذا جاءهم الهدى ابتعدوا عن منهج الله وخالفوه فإن الله تبارك وتعالى يتخلى عنهم ويتركهم فى ضلالهم وإقرأ قوله تعالى

( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ( 36 ) ) ( سورة الزخرف ) .

والله سبحانه وتعالى قد بين لنا المحرومين من هداية المعونة على الإيمان وهم ثلاثة كما بينهم لنا فى القرآن الكريم

( ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدى القوم الكافرين ( 107 ) ( سورة النحل ) ز

( ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها أو يخافوا أن ترد أيمان بعد إيمانهم واتقوا الله واسمعوا والله لا يهدى القوم الفاسفين ( 108 ) ) ( سورة المائدة ) .

( ألم تر الذى حاج ابراهيم فى ربه أن آتاه الله الملك إذ قال ابراهيم ربى الذى يحيى ويميت قال أنا أحى وأميت قال ابراهيم فإن الله يأتى بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذى كفر والله لا يهدى القوم الظالمين ( 258 ) / سورة البقرة

فالمطرودون من هداية الله فى المعونة على الإيمان هم الكافرون والفاسقون والظالمون الحق سبحانه وتعالى يقول اهدنا الصراط المستقيم ما هو الصراط ؟ إنه الطريق الموصل إلى الغاية ولماذا نص على أنه الصراط المستقيم ؟ لأن الله سبحانه وتعالى وضع لنا فى منهجه الطريق المستقيم وهو أقصر الطرق إلى تحقيق الغاية فأقصر طريق بين نقطتين هو الطريق المستقيم ولذلك فإن أقصر طريق للوصول بين مكانين هو الطريق الذى لا اعوجاج فيه ولكنه طريق مستقيم .

ولا تحسب أن البعد عن الطريق المستقيم يبدأ بإعوجاج كبير بل بإعوجاج صغير جدا ولكنه ينتهى إلى بعد كبير .

وعن طريق مراقبة قضبان السكة الحديد عندما يبدأ القطار فى اتخاذ طريق غير الذى كان يسلكه فهو لا ينحرف فى أول الأمر إلا بضعة ملليمترات أى أن أول التحويلة ضيق جدا وكلما مشى الإنسان اتسع الفرق وازداد اتساعا بحيث عند النهاية نجد أن الطريق الذى مشى فيه الإنسان يبعد عن الطريق الأول ( طريق السكة الحديد ) عشرات الكيلومترات وربما مئات الكيلومترات فأى انحراف مهما كان بسيطا يبعد الإنسان عن الطريق المستقيم بعدا كبيرا ولذلك فإن الدعاء ( إهدنا الصراط المستقيم ) أى الطريق الذى ليس فيه اعوجاج ولو بضعة ملليمترات الطريق الذى ليس فيه مخالفة تبعدنا عن طريق الله المستقيم .

ولذلك فإن الإنسان المؤمن يطلب من الله سبحانه وتعالى أن يهديه إلى أقصر الطرق للوصول إلى الغاية وما هى الغاية ؟ إنها الجنة والنعيم فى الآخرة ولذلك نقول يا رب اهدنا وأعنا على أن نسلك الطريق المستقيم وهو طريق المنهج ليوصلنا إلى الجنة دون أن يكون فيه أى اعوجاج يبعدنا عنها .

ولقد قال الله سبحانه وتعالى فى حديث قدسى أنه إذا قال العبد ( إهدنا الصراط المستقيم ) يقول جل جلاله هذا لعبدى ولعبدى ما سأل يقول الحق تبارك وتعالى ( صراط الذين أنعمت عليهم ) ما معنى ( الذين أنعمت عليهم ) ؟ إقرأ الآية الكريمة

( ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا

( 69 ) ) ( سورة النساء ) .

وعند قراءة الآية الكريمة فالإنسان المؤمن يطلب من الله تبارك وتعالى أن يكون مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين أى أن الإنسان المؤمن يطلب من الله جل جلاله أن يجعله يسلك نفس الطريق الذى سلكه هؤلاء ليكون معهم فى الآخرة قكأنه يطلب الدرجة العالية فى الجنة لأن كل من النبيين والصديقيين والشهداء والصالحين لهم مقام عال فى جنة النعيم وهكذا فإن الطلب من الله سبحانه وتعالى هو أن يجعل الإنسان المؤمن يسلك الطريق الذى لا اعوجاج فيه والذى يوصل بالإنسان المؤمن فى أسرع وقت إلى الدرجة العالية فى الآخرة .

وعندما نعرف أن الله سبحانه وتعالى قال ( هذا لعبدى ولعبدى ما سأل ) نعرف أن الاستجابة تعطى الإنسان المؤمن الحياة العالية فى الآخرة وتمتعه بنعيم الله ليس بقدرات البشر كما يحدث فى الدنيا ولكن بقدرة الله تبارك وتعالى وإذا كانت نعم الدنيا لا تعد ولا تحصى فكيف بنعم الآخرة ؟ لقد قال الله سبحانه وتعالى عنها ( لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ( 35 ) ) سورة ق

أى أنه ليس كل ما تطلبه فقط ستجده أمامك بمجرد وروده على خاطر الإنسان المؤمن ولكن مهما طلب الإنسان المؤمن من النعم ومهما تمنى فالله جل جلاله عنده مزيد ولذلك فإنه يعطى الإنسان المؤمن كل ما يشاء ويزيد عليه بما لم يطلب ولا يعرف من النعم وهذا تشبيه ليقرب الله تبارك وتعالى صورة النعيم إلى أذهان الناس المؤمنين ولكن الجنة فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .

وبما أن المعانى لا بد أن توجد أولا فى العقل ثم يأتى اللفظ المعبر عنها فكل شىء لا نعرفه لا توجد فى اللغة العربية ألفاظ تعبر عنه فنحن لم نعرف اسم التلفزيون إلا بعد أن اخترع وأصبح له مفهوم محدد كما لم نعرف اسم الطائرة قبل أن يتم اختراعها فالشىء يوجد أولا ثم بعد ذلك يوضع اللفظ المعبر عنه ولذلك فإن مجامع اللغات فى العالم تجتمع بين فترة وأخرى لتضع أسماء لأشياء جديدة اخترعت وعرفت مهمتها .

وما دام ذلك هو القاعدة اللغوية فإنه لا توجد ألفاظ فى لغة البشر تعبر عن النعيم الذى سيعيشه أهل الجنة لأنه لم تره عين ولم تسمع به إذن ولا خطر على قلب بشر ولذلك فإن كل ما نقرؤه فى القرآن الكريم يقرب لنا الصورة فقط ولكن لا يعطينا حقيقة ما هو موجود ولذلك نجد الله سبحانه وتعالى حين يتحدث عن الجنة فى القرآن الكريم يقول :

( مثل الجنة التى وعد المتقون فيها أنهار من ماء غير أسن وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ولهم فيها من كل الثمرات ومغفرة من ربهم كمن هو خالد فى النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم

( 15 ) ) ( سورة محمد ) .

أى أن هذا ليس حقيقة الجنة ولكنها مثل فقط يقرب ذلك إلى الأذهان لأنه لا توجد ألفاظ فى لغات البشر يمكن أن تعطينا حقيقة ما فى الجنة .

وقوله تعالى ( غير المغضوب عليهم ) أى غير الذين غضبت عليهم يا رب من الذين عصوا ومنعت عنهم هداية الإعانة الذين عرفوا المنهج فخالفوه وارتكبوا كل ما حرمه الله فاستحقوا غضبه .

ومعنى ( غير المغضوب عليهم ) أى يا رب لا تيسر لنا الطريق الذى نستحق به غضبك كما استحقه أولئك الذين غيروا وبدلوا فى منهج الله ليأخذوا سلطة زمنية فى الحياة الدنيا وليأكلوا أموال الناس بالباطل .

وقد وردت كلمة ( المغضوب عليهم ) فى القرآن الكريم فى قوله تعالى

( قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل ( 60 ) ) ( سورة المائدة ) .

وهذه الآيات نزلت فى بنى اسرائيل .

وقول الله تعالى ( ولا الضالين ) يوجد الضال والمضل الضال هو الذى ضل الطريق فاتخذ منهجا غير منهج الله ومشى فى الضلالة بعيدا عن الهدى وعن دين الله ويقال ضل الطريق أى مشى فيه وهو لا يعرف السبيل إلى ما يريد أن يصل إليه أى أنه تاه فى الدنيا وأصبح وليا للشيطان وابتعد عن طريق الله المستقيم هذا هو الضال ولكن المضل هو لم يكتف بأنه ابتعد عن منهج الله وسار فى الحياة على غير هدى بل يحاول أن يأخذ غيره إلى الضلالة يغرى الناس بالكفر وعدم اتباع المنهج والبعد عن طريق الله وكل واحد من العاصين يأتى يوم القيامة يحمل ذنوبه إلا المضل فإنه يحمل ذنوبه وذنوب من أضلهم مصداقا لقوله سبحانه ( ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم ألا ساء ما يزرون ( 25 ) )

( سورة النحل ) .

أى أن الإنسان المؤمن وهو يقرأ الفاتحة فإنه يستعيذ بالله أن يكون من الذين ضلوا ولكن الحق سبحانه وتعالى لم يأت أحد هنا بالمضلين نقول إنك لكى تكون مضلا لا بد أن تكون ضالا أولا فالاستعاذة من الضلال هنا تشمل الضال والمضل لأنك ما دمت استعذت من أن تكون ضالا فلن تكون مضلا أبدا .

بقى أن ننكلم عن ختم فاتحة الكتاب بقولنا آمين أسوة برسول الله صلى الله عليه وسلم الذى علمه جبريل عليه السلام أن يقول بعد قراءة الفاتحة آمين فهى من كلام جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليست كلمة من القرآن .

وكلمة ( آمين ) معناها استجب يا رب فيما دعوناك به من قولنا ( اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم ) أى أن الدعاء هنا له شىء مطلوب تحقيقه وآمين دعاء لتحقيق المطلوب وكلمة ( آمين ) اختلف العلماء فيها أهى عربية أم غير عربية .

ويوجد سؤال كيف تدخل كلمة غير عربية فى قرآن حكم الله بأنه عربى ؟ نقول إن ورود كلمة ليست من أصل عربى فى القرآن الكريم لا ينفى أن القرآن كله عربى بمعنى أنه إذا خوطب به العرب فهموه وتوجد ألفاظ دخلت فى لغة العرب قبل أن ينزل القرآن ولكنها دارت على الألسن بحيث أصبحت عربية وألفتها الأذان العربية .

فليس المراد بالعربى هو أصل اللغة العربية وحدها وإنما المراد أن القرآن نزل باللغة التى لها شيوع على ألسنة العرب وما دام اللفظ قد شاع على اللسان قولا وفى الأذان سمعا فإن الأجيال التى تستقبله لا تفرق بينه وبين غيره من الكلمات التى هى من أصل عربى فاللفظ الجديد أصبح عربيا بالاستعمال وعند نزول القرآن كانت الكلمة شائعة شيوع الكلمة العربية .

واللغة ألفاظ يصطلح على معانيها بحيث إذا أطلق اللفظ فهم المعنى واللغة التى نتكلمها لا تخرج عن اسم وفعل وحرف الاسم كلمة والفعل كلمة والحرف كلمة والكلمة لها معنى فى ذاتها ولكن هل هذا المعنى مستقل فى الفهم أو غير مستقل إذا فيل محمد تم فهم الشخص الذى سمى بهذا الاسم فصار له معنى مستقل وإذا قلت كتب فهم أنه قد جمع الحروف لتقرأ على هيئة كتابة ولكن إذا قلنا ماذا وهى حرف فلا يوجد معنى مستقل وإذا فلنا ( فى ) دلت على الظرفية ولكنها لم تدلنا على معنى مستقل بل لا بد أن نقول إن الماء فى الكوب أو فلان على الفرس غير المستقل فى الفهم نسميه حرفيا لا يظهر معناه إلا بضم شىء له والفعل يحتاج إلى زمن ولكن الاسم لا يحتاج إلى زمن .

فالاسم هو ما دل على معنى مستقل بالفهم وليس الزمن جزءا منه والفعل ما دل على فعل مستقل بالفهم والزمن جزء منه والحرف دل على معنى غير مستقل ما هى علامة الفعل هى أنك تستطيع أن يسند تاء الفاعل أى تقول كتبت والفاعل هو المتكلم ولكن الاسم لا يضاف إليه تاء الفاعل فلا نقول محمدت إذا رأيت شيئا يدل على الفعل أى يحتاج إلى زمن ولكنه لا يقبل تاء الفاعل فإنه يكون اسم على فعل .

آمين من هذا النوع ليست فعلا فهى اسم مدلولة مدلول الفعل معناه استجب فالإنسان حين يسمع كلمة ( آه ) إنها اسم لفعل بمعنى أتوجع وساعة تقول ( اف ) اسم فعل بمعنى أتضجر وآمين أسم فعل بمعنى استجب ولكنك تفولها مرة وأنت القارىء وتقولها مرة وأنت السامع فساعة تقرأ الفاتحة تقول آمين أى أنا دعوت يا رب فاستجب دعائى لأنك لشدة تعلقك بما دعوت من الهداية فإنك لا تكتفى بقول ( اهدنا ) ولكن تطلب من الله الاستجابة وإذا كنت تصلى فى جماعة فأنت تسمع الإمام وهو يقرأ الفاتحة ثم تقول آمين لأن المأموم أحد الداعين الذى دعا هو الامام وعندما قلت آمين فأنت شريك فى الدعاء ولذلك فعندما دعا موسى عليه السلام أن يطمس الله على أموال قوم فرعون ويهلكهم قال الله لموسى

( قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون ( 89 ) ) ) ( سورة يونس ) .

أى أن الخطاب من الله سبحانه وتعالى موجه إلى موسى وهارون ولكن موسى عليه السلام هو الذى دعا وهارون آمن على دعوة موسى فأصبح مشاركا فى الدعاء .